top of page

سيرة ذاتيّة

ظاهرة , وليس سيره ذاتيّة

توفيق زيّاد (1929 – 1994)

كان الفتى توفيق في السابعة من عمره، عندما التقى الجنود لأول مرّة وجهاً لوجه. لقد سمع من الناس، مثلما سمع بقيّة أولاد الحارة، انهم سيئون وقساة وعنيفون. قال والده أمامه، غير مرّة، أنهم مستعمرون ويجب طردهم من فلسطين. لكنه الآن يجربهم بنفسه. يشاهدهم بعينيه وهم يُظهرون مساوئهم وعنفهم وقساوتهم. فقد داهموا البيت. طوقوه. فتشوه قرنة قرنة. قلبوا كل شيء. نبشوا في كل شيء. اعتقلوا والده. دفعوا والدته. أفزعوا اخوته. ثم جاء دوره.

    حدث ذلك في نهاية 1936، سنة الثورة الفلسطينية الكبرى ضد الاستعمار البريطاني. وكان "الأمين زيّاد" واحدا من ثوّار الناصرة. وقد جاء الجنود، بالأساس، لمصادرة بندقيته. لكنه لم يعترف بوجودها. فقرر الضابط ان يحقق مع الفتى الصغير توفيق  – "خذوا أسرارهم من صغارهم" – الذي كان يعرف فعلا أين خبأ والده البندقية.

     في البداية حاول إقناعه برقة وهدوء ثم حاول إغراءه بالمال ثم انتقل إلى التهديد بالاعتقال وبالضرب .. وكل هذا لم ينفع مع الفتى توفيق زيّاد، ابن السابعة. فعاد الضابط على أعقابه. وراح يكرر محاولاته لابتزاز اعتراف من الأب، أيضا بلا جدوى.

     وتمر الأيام. وفي كل يوم يأخذ الفتى وجبة طعام الغذاء من والدته ليوصلها إلى والده في المعتقل. وكان يمر قرب ذلك الضابط وغيره، دون أن يرمش له جفن. فقد دفن السر في قلبه وأغلق عليه كل الأبواب ولم يخش على نفسه من نفسه .. أن يضعف لحظه ويكشف الأمر.

     لقد حمل توفيق زيّاد هذا السر معه تسعا وثلاثين سنة متواصلة. ولم يكشفه إلا عندما عاد ودخل إلى مبنى ذلك المعتقل، بعد أن أصبح داراً للبلديّة في الناصرة. ودخله هذه المرّة، رئيساً للبلديّة، رئيساً منتخباً وفارساً شامخاً .. فالحقبة ما بين صمود الفتى في وجه الضابط الإنجليزي (1936) وبين انتصاره في انتخابات البلديّة (1975)، كانت عاصفة بالأحداث المصيريّة لشعب توفيق زيّاد وكانت زاخرة بالأحداث البركانيّة لشخص توفيق زياد. فالفتى الصامد أصبح قائداً عظيماً. وترغيب الضابط الإنجليزي وترهيبه تحولا إلى مسلسل من التعذيب الرهيب من صنع جلادي الحكم العسكري الإسرائيلي. وخلال ذلك سَطَّر الرجل أروع قصّة كفاح بطوليّة.

Scan_28210706.jpg

 البداية

     ولد توفيق أمين زيّاد في مدينة الناصرة، يوم السابع من أيّار العام 1929، لأبوين كادحين.

     الأب إنسان عصامي، توفي والده منذ الصغر فاضطر للاعتماد على نفسه في كل شيء. وحرص على إكمال تعليمه، بدون توقف. وكان أحد القلائل الذين أنهوا الدراسة الموجودة بالناصرة بكامل مراحلها. وسافر إلى الشام وتعلم مهنة التمريض لمدة ثلاث سنوات، كان حلمه أن يصبح طبيبا، لكن الظروف السياسيّة والاقتصاديّة عرقلت برنامجه.

     خلال دراسته اشتغل في عدة أعمال، وتمكن من شراء حمار استخدمه في نقل البضائع من وإلى بلاد الشام، وبيعها هنا وهناك. وعندما جمع بعض رأس المال قرّر الاستقرار فتزوّج وفتح دكان بقالة في مركز الناصرة (مكان عمارة عوّاد – عفيفي اليوم) ثم بنى غرفة في ساحة الدار، ليكون الدكان ملكاً له بالتمام وبالكمال.

     أما والدة توفيق زيّاد، فقد اشتغلت في الأرض وفي البيت وساهمت في العمل مع زوجها. كانت تنهض في الفجر وتعجن عشرات الأرغفة، ليبيعها هو في الدكان. لذلك أحب أبو الأمين، طوال عمره، أغنية سيّد درويش (التي غنّتها فيروز فيما بعد)، والتي تقول:

" الحلوة دي قامت تعجن في الفجريّة"

     كان توفيق زيّاد يحب والديه حباً جماً ويعتز بهما اعتزازاً كبيراً. ذات مرّة، خلال إحدى المعارك الانتخابية البلدية، وصل إلى مسامعه مقولة ذُكرت في بعض البيوت: " لمين بدكوا تصوتوا .. لابن الجمّال ؟!!" واختار توفيق زيّاد أن يرد على هذه الدعاية. فقال: "انا أفتخر بأصلي وبمنبتي وبوالدي، لكن ليس صحيحاً ان والدي كان جمّالاً، فلم يعش ذلك العز والرفاه الذي يسمح له بشراء جمل. لقد تمكن فقط من شراء حمار".

     لقد انطبع في توفيق زياد العديد من صفات والديه. وكان يقول باستمرار: "من والدتي تعلمت الطيبة ودماثة الخلق. ومن والدي تعلّمت الشجاعة والمواجهة". وبامكان من يعرف هذا الثالوث عن قرب أن يضيف العديد العديد من الصفات.

     فوالدته عزّزت فيه من صفاتها الحنيّة، فقد كانت حنونة عطوفة وكان هو أيضاً كذلك. هي إنسانة صبورة بلا حدود خصوصاً في وقت الشدائد. وتوفيق زيّاد، وإن كان يغضب ويثور في الأمور اليوميّة والجارية، لكنه عندما يواجه حدثاً جللاً أو مصيبة كبرى .. ويرى من حوله ثائرين أو محبطين .. يظهر صبره وحلمه وحكمته ويواجه الحدث " بعقل بارد وقلب ملتهب"، كما كان يقول.

     وأخذ من والده صفات الاستقامة الشديدة والحرفية ونقاوة اليد والعناد في الحق ووضع الكرامة الشخصيّة فوق كل اعتبار.

     ذات مرّة داهمت الشرطة بيته تبحث عن توفيق. فأجابهم: "توفيق مش هون"

مع أن توفيق كان مختبئاً داخل الغرفة. وعندما ذهب رجال الشرطة، خرج من المخبأ وراح يمازح والده: "أنت إنسان متديّن، ولكنك لم تقل الحقيقة للشرطة". فأجابه والده: "بل قلتُ الحقيقة، انت بالنسبة لي اسمك صبحي وليس توفيق، فلو سألوني: " صبحي هون؟ " لكان الموضوع مختلفاً ". وبالفعل كان توفيق زيّاد يحمل اسمين. ووالده معروف في الناصره بـ " أبو صبحي " وليس بـ " أبو توفيق ".

     لكن هناك صفة أخرى طبعها الأمين زيّاد في ابنه البكر توفيق، كان لها بعد عميق في شخصيّته ثم في حياته السياسيّة ... وهي الموقف من الدين والمتدينين، فقد كان الأب متديّناً ورعاً وحقيقياً وأصيلاً. حفظ القرآن عن ظهر قلب. وتعمّق في دراسة الدّين وأحكامه. وبات مرجعاً فيهما للكثيرين من رجال الدين.

     وقد عُرفَ عنه رفض التعصّب الديني والتَزَمُّت رفضاً باتاً. وكان يؤمن بأن الإسلام دين تسامح، وخير سبيل في الدعوة للإسلام هو .."وجادلهم بالتي هي أحسن". وطريقة الحركات والأحزاب الإسلامية السياسيّة كانت تثير غضبه وحزنه في آن فيقول: "هدولا متجددين على الإسلام، يُنَفرّون الناس من الإسلام". وبسببهم وبسبب أمثالهم من المتسلقين على الدين والمنابر، قاطع الجامع الذي حاولوا السيطرة عليه وانتقل إلى جامع آخر.

     وهكذا كان توفيق زيّاد. لم يكن متديّناً، ولكنه احترم الدين ورجال الدين من كل الطوائف، وفي الوقت نفسه كره التعصّب الديني وجابه المتعصبين بكل قوته وخصوصاُ عندما بدؤا يروجون للطائفيّة العنصريّة ولطفس المرأه ودورها فضلاً عن رفضهم للسلام.

الولد القائد

يؤكد زملاء توفيق زيّاد على مقاعد الدراسة وأولاد حارته أن العديد من الصفات التي عُرف بها في الكبر، حملها معه في الصغر أيضاً.

     ابن صفه، سميح رزق، يقول: "كان فلفل الصف، جوابه على رأس لسانه، صاحب نكتة، حكيم وعميق، كان يُعلّق على كل شيء يسمعه، واذكر أننا كنّا نضحك ونعجب بتعليقاته المرحة والحكيمة. وهو تلميذ برزت لديه ملكة اللغة وقوّة التعبير. بل كان محلّلاً سياسيّاً مُجيداً. وأذكر ذات مرّة أنّ معلم اللغة الإنجليزيّة جمال سكران، طلب منّا موضوع إنشاء حول كتاب " الحرب والسلام "، فكان الموضوع الذي أعدّهُ توفيق هو الأنجح. فطلب منه المعلم أن يقرأه أمامنا كاملاً.

     ابن صفه ورفيق دربه، حسن محمود خُطبا، يقول: "كان ذكيّاً جداً، لكن أبرز صفاته هي وقوفه الدائم إلى جانب المظلومين، وتواضعه، وحبه للناس، وتميّز باختلاطه مع زملاء الدراسة القادمين من القرى العربيّة وارتباطه معهم بأواصر الصّداقة".

     ابن حارته وزميل الطفولة، ابراهيم طه، يقول: " كنا نقضي أوقاتاً طويلة في اللعب، والويل الويل لمن يُحاول الغش في اللعب أو يحاول المساس به، فلم يكن يسكت على خطأ، وكان يقاتل من أجل الحق".

     معلمه رشدي شاهين، يقول: " كان توفيق طالباً نشيطاً جداً، تصرفاته وحركاته لفتت الأنظار".

     وفي المدرسة الثانويّة البلديّة في الناصرة بدأت تتبلور شخصيّته السياسيّة أيضاً وبرزت لديه موهبة الشعر وهواية القراءة.

     كان يتردد على مكتبة سمعان نصّار، الذي أصبح خوري طائفة الروم الأورثوذكس في المدينة المعروف بموقفه الوطني، وهو نفسه شقيق القائد الشيوعي المعروف وأحد القادة الميدانيين البارزين لثورة 1936، فؤاد نصّار.

     ولم تكن الميزانيّة تسمح بشراء الكتب، فكان يستعيرها بالأجرة، وقد دُهش صاحب المكتبة من هذا الفتى لمثابرته في القراءة وكثرة تردده على المكتبة، وأصبح يعطيه الكتب حتى لو لم تتوفر النقود بين يديه.

     القراءة عادة رافقت أبا الأمين طوال عمره. ولم تقتصر على مجال دون آخر، فقرأ في الأدب وفي السياسة وفي الثقافة العامّة وأيضاً في العلوم. أحد الكتب التي كانت محبّبة إلى قلبه هو "الفيزياء المسليّة". فقد حمل رأياً يقول أنّ العلوم أساس الأدب، وأحب المواضيع العلمية وتفوّق في الرياضيّات.

     أمّا اتجاهه السياسي، فقد تأثّر بداية بثلاثة مربّين وطنيين علموه في المدرسة، هم رشدي شاهين وجمال سكران وفؤاد خوري. والأستاذ شاهين معروف كأحد قادة عصبة التحرّر الوطني ثم الحزب الشيوعي الأردني. لقد اهتم هؤلاء المربون باطلاع تلاميذهم على مجلّة "المهماز" وجريدة "الاتحاد" والفكر الاشتراكي. ومن هنا بدأت العلاقة مع فرع الناصرة لعصبة التحرر الوطني والانخراط في النضال السياسي والشعبي، ضد الاستعمار البريطاني ومن أجل الاستقلال الوطني للشعب الفلسطيني.. وأيضا في القضايا المحليّة والطلابيّة. فشارك توفيق زيّاد وعدد من زملائه الطلبة في التظاهرات الشعبيّة، ثمّ قادوا مظاهرة طلّابيّة في العام 1946.

معارك البقاء

     بعد نكبة الشعب الفلسطيني وقيام دولة إسرائيل (15.05.1948)، كان توفيق زيّاد الشاب وبقيّة أفراد العائلة من اولئك الناس الذين تشبثوا بأرض الوطن ورفضوا أي تفكير في الهرب والرحيل. وقد انضم، في هذه الفترة، رسميا إلى صفوف الحزب الشيوعي .. الذي كان همه الأساسي آنذاك التصدي لعمليّات الترحيل.

     وشهد الحي الشرقي في الناصرة، الذي ولد فيه توفيق زيّاد وعاش كل حياته، معركة بطوليّة لمنع الترحيل. فقد فرضت قوّات الحكم العسكري طوقا على الحي وجمعت الشبان والرجال في ساحة عامّة بانتظار الشاحنات وبدأت حملة تفتيش وتمشيط. وتمكن عدد من نشطاء الحزب من الأحياء الأخرى من التسلل إلى الطوق، وبينهم منعم جرجورة الذي سبق توفيق زيّاد في الرحيل إلى العالم الآخر بضعة أسابيع (توفي يوم 20.05.1994)، والتحموا مع الشيوعيين والوطنيين الآخرين من أبناء الحي وحوّلوا "جلسة القرفصاء الذليلة" في ساحة الطوق إلى مظاهرة احتجاج صاخبة. وفشلت هذه المحاولة.

     لكن سياسة الترحيل لم تنزل عن أجندة السلطة الإسرائيليّة أبدا. وأفصحوا عن سياستهم هذه بصراحة ومن خلال عدد من المسؤولين الحكوميين ووسائل الإعلام الرسميّة وشبه الرسميّة. والأهم من ذلك، مارسوا هذه السياسة بقدر مستطاعهم. فقد هدموا مئات القرى العربيّة وأبادوها تماماً، ليمنعوا عودة أصحابها إليها (حتّى لو كانوا موجودين في البلاد). وليمحوا كل أثر عربي في منطقتها. وفرضوا حكماً عسكريّاً على ما تبقى من البلدات العربية، فقط العربيّة. وخولّوا الحكّام العسكريين بصلاحيّة العمل وفق أنظمة الطواريء الانتدابيّة لسنة 1945، والتي تبيح لكل واحد منهم تقييد حريّة أي مواطن وحتى نفيه من بلده أو فرض إقامة جبريّة عليه في بيته. وفرضوا نظام التصاريح، فلم يكن يسمح للمواطن العربي بمغادرة بلدته والسفر إلى العمل وتحصيل لقمة العيش، إلّا بتصريح من الحاكم العسكري. وتحوّل نظام التصاريح هذا إلى وسيلة إذلال للناس وإفساد لأخلاقهم فيستعملونها ورقة ضغط وتجنيد للعمالة. وسنّوا قانوناً خاصاً يحرم المواطنين العرب من حق المواطنة، هو قانون الجنسيّة لسنة 1952، الذي يجيز لكل يهودي أينما كان حق الحصول على جنسيّة إسرائيليّة بينما يحرم ابن البلاد العربي من هذا الحق ويجعله إلى الأبد ساكناً مؤقتاً. وصادروا مئات ألوف الدونمات من الأراضي، بموجب قانون استملاك خاص (سنة 1953).

     وانتهجوا سياسة تجهيل في التعليم. ومنعوا إقامة مجالس محليّة منتخبة في معظم البلدات، وعيّنوا زعماء من المخاتير التابعين لهم المؤتمرين بأوامرهم. وحرموا العرب من التأمين الصحي والتنظيم النقابي "عضويّة الهستدروت".

     ولمّا كانت البلاد في حالة توتر دائم وكان معظم المثقفين العرب والقادة – السياسيين قد هربوا، فقد بدا الفلسطينيون الباقون في وطنهم أشبه ما يكون بـ "الأيتام على مأدبة اللئام"، كما كان يردد باستمرار توفيق زيّاد.

     وهنا، قام الحزب الشيوعي بدوره التاريخي لتثبيت بقاء الجماهير العربيّة في وطنها ومقاومة سياسة السلطة بكل جوانبها، الترحيل ومصادرة الأراضي والتجهيل وغير ذلك. وكان هذا الحزب القوّة السياسيّة الوحيدة التي واجهت آنذاك كل هذه السياسة مجتمعة، بشجاعة أسطوريّة وبمعارك بطوليّة.

     وكان من الطبيعي لشاب وطني صادق وواع وواضح الرؤيا مثل توفيق زيّاد أن ينخرط في صفوف هذا الحزب ويتصدّر معاركه ويتبوّأ المراكز القياديّة فيه. ولقاء ذلك يدفع ثمناً باهظاً، أحياناً بلقمة الخبز وأحياناً أخرى بحجز حريّته .. ودائما على حساب صحته وراحته.

     ففي كل معركة خاضها الحزب كان لتوفيق زيّاد دوره البارز والمؤثر والشجاع بشكل خاص. ولم يفت من عضده أي قمع أو تعذيب.

     في الأشهر الأولى من قيام الدولة كان معظم أرباب العائلات العربيّة عاطلين عن العمل، فلا عمل للعمال. ولا أرض كافية للمزارعين. الكثير من الأراضي والمراعي أغلقت. فخرج الحزب من معركة شعبيّة برلمانيّة إعلاميّة مطالباً بإيجاد أماكن عمل للعمّال. فانطلقت المظاهرات وكتبت الشعارات وطرحت القضيّة في الكنيست.

     وقد تسمع كلمة مظاهرات أو شعارات هنا بشكل عادي، لكن كل نشاط كهذا كان في حينه بمثابة عمل كفاحي جبّار ينطوي على المغامرات والمخاطرة. فالحكم العسكري لم يكن يسمح بأي نشاط سياسي، كان يلاحق الناس ويطاردهم إذا ما تجرؤا وقرؤوا جريدة "الاتحاد"، فكم بالحري السير بمظاهرة.

     وقد فرض جوّاً إرهابياً على المواطنين وبث الرعب في صفوفهم، لدرجة أنّ الكثيرين خافوا من المشاركة حتّى في نشاطات الاحتجاج المطالبة بالخبز والعمل.

    واشتهر عن توفيق زيّاد لجوؤه إلى حيلة لتجميع العمال في الناصرة، بعد الفشل في تجنيدهم لإحدى المظاهرات. فقام ومجموعة من الرفاق في مؤتمر العمّال العرب والحزب بإطلاق إشاعة بين العمال أنّه سيحضر إلى ساحة مكتب العمل، مقاول من تل أبيب لأخذ عمال إلى العمل. ونجحت الخطّة. فقد تدفّق مئات العمّال على المكان المقرّر. وانتظروا ساعات دون أن يحضر فوقف النقابي منعم جرجورة يخطب فيهم محرضاً. ثم انطلقوا في مظاهرة باتجاه البلديّة. وهناك خطب فيهم توفيق زيّاد شارحاً لهم الوضع بصراحة، فمن يريد أن يعيل عائلته عليه أن يعمل، ومن يريد العمل عليه ألّا ينتظر رحمة ربه من السماء، بل أن يناضل من أجل العمل.

     وتكرّرت النضالات من أجل العمل، حتّى توجهت قيادة الحكم العسكري إلى مؤتمر العمال العرب عارضةً العمل في قطف الزيتون وغيره في منطقة اللد والرملة. وهكذا وجدت أماكن عمل لمئات العمال. وسافر توفيق زيّاد معهم، كأحد العمال، ونشط بين صفوفهم كشيوعي ونقابي.

     لقد نشط توفيق زيّادفي العمل النقابي سنوات طويلة، عمليّاً حتّى مطلع الستينات. وشارك في المؤتمر الثالث لاتحاد النقابات العالمي في النمسا. وكتب العديد من المقالات في "الاتحاد" عن أوضاع العمّال في إسرائيل والعمّال العرب بشكل خاص. وكرّس نقاشه في المؤتمر الـ – 13 للحزب الشيوعي (29.5 – 01.06 سنة 1957) لقضايا العمّال العرب وأوضاعهم القاسيه جداً، وقال: " نسبة البطالة بين العمّال العرب تصل إلى الثلث (33.3%)، مستوى أجورهم والشروط الاجتماعيّة لديهم منخفضة جداً بالمقارنة مع العمّال اليهود، يتعرضون للطرد الجماعي من أماكن العمل لكونهم عرباً، ويستبدلونهم بعمّال يهود من القادمين الجدد، بحجة أنّهم غير منظمين. ولكنهم معنيون بالتنظيم ويطالبون به إلّا أن أبواب الهستدروت مغلقة في وجوههم".

     في هذه السنوات تجلت مواهب توفيق زيّاد القياديّة، ولكن ليس بالشكل التقليدي للقيادة، فقد كان قائداً شعبياً وليس زعيماً.

     عاش حياة العمال والناس البسطاء، فهم لغتهم وفهموا لغته، وأحبوه وأحبّهم، وثقوا به وآمنوا بصدقه واقتنعوا بأقواله.

Scan_22510706.jpg

النشاط البلدي

في سنة 1954 نجحت المعركة لإجراء انتخابات بلديّة الناصرة، ورُشح توفيق زيّاد في المكان الثاني في "القائمه الشيوعيّة وغيرالحزبيين"، وفازت الكتلة بستة مقاعد من مجموع 15 مقعداً. وفي الجلسة الأولى (01.07.1954) رشح لرئاسة البلديّة رفيقه القائد الشيوعي المحبوب فؤاد جابر خوري. ومع أنّه لم يكن هناك مرشّح آخر إلّا أنّه حصل على 6 أصوات (هم أعضاء الكتلة الشيوعيّة). وتأجلت الانتخابات لجلسة قادمة. ثم انتخب أمين جرجورة.

     هنا أيضاً تجلّت سمات توفيق زيّاد. المنصب الذي ينتخب إليه يملؤه تماماً ويمارس مسؤوليته فيه بجديّة ويأتي إليه مستعداً، يدرس القانون ويفهم حقوقه وواجباته ويضع لنفسه أهدافا واضحة ومحدّدة.

     فمن الجلسة الأولى التي حضرها بعد انتخاب رئيس البلديّة طرح توفيق زيّاد مطلب فتح جلسات المجلس البلدي أمام الجمهور، ورُفض اقتراحه بالأغلبية الأوتوماتيكية.

     وبعد عدة أشهر، فوجيء توفيق زيّاد ورفاقه بحضور مدير شرطة الناصرة، وندرمان، جلسة المجلس البلدي وقد جلس بجوار رئيس البلديّة. فمن يعترض على ذلك ويجرؤ على الطلب من مدير الشرطة، صاحب السلطة والسطوة، في المدينة.. أن يغادر الجلسة. بالطبع توفيق زيّاد. فوقف معلناً: " الجلسة التي تكون مغلقة أمام شعب الناصرة لن تكون مفتوحه أمام مدير الشرطة.

     ويصاب أعضاء البلدية من الأئتلاف بالذهول من هذا الموقف "المغامر"، ويحاول رئيس البلدية ثنيه عن مطلبه، لكن توفيق يصّرعلى موقفه، بدعم من رفاقه أعضاء الكتلة، والقانون في هذه الحالة معه، فما كان من قائد الشرطة إلّا أن يخرج من الجلسة غاضباً وقد شعر بالإهانة.

     وكان هذا درساً أراد به توفيق زيّاد ضرب عدة عصافير بحجر واحد، أهمّها وأخطرها: تحطيم عنجهيّة السلطة أمام الناس، ففي ظل الحكم العسكري، كان أصغر شرطي يتعامل مع العرب ياستعلاء وباستهتار. الكثيرون يهابون السلطة وممثليها. والكثيرون لا يجرؤون على رفع رؤوسهم أمامها. وتوفيق زيّاد الذي تربى على الكرامة الشخصيّة والوطنية، أراد تشجيع الآخرين على المواجهة في الحق، فالبدلة الرسميّة للشرطي، لا تجعله أفضل من الناس أو أرقى.

     والأمر نفسه ينطبق على تعامل إدارة البلديّة، فقد أراد توفيق زيّاد ورفاقه تحطيم النظره الرئاسيّة الفوقيّة لإدارة البلديّة تجاه الناس أو حتّى تجاه أعضاء المجلس البلدي، وكانت الحكومة وأوصياؤها على العرب يشجعون هذه النظرة في المجالس المحليّة العربيّة الموجودة أو في الأطر البلديّة التي أقامتها في القرى العربيّة بقيادة زلم الحكم العسكري والمخاتير. والتاريخ مليء بقيام رؤساء بلديّة بالاعتداء على أعضاء مجالس وعلى موظفين وباستخدام موظفين للخدمة الشخصيّة "روح اشتري لي خضرة ولحمة وابعثها على البيت " .. وهكذا. ومن الغريب حقاً أن تكون دولة إسرائيل، التي تتباهى بالديمقراطيّة وبالحضارة الغربيّة، قد أدارت سياسة دول العالم الثالث بين الجماهير العربيّة. هذه السياسه بالذات، لم يفوّت توفيق زيّاد فرصة لمقاومتها وكسرها.

     في إحدى الجلسات (مطلع العام 1955) يصر توفيق زيّاد على إلغاء جلسة المجلس البلدي، لأن الدعوة لم تصله في الوقت المناسب حسب القانون. ومن ذلك الوقت والدعوات تصله في الموعد.

     المجالس البلديّة التي كانت ترى نفسها تابعة للحكومة، حولها توفيق زيّاد ورفاقه، إلى ساحة نقاش - حاد في الكثير من الأحيان - وتمكنوا مرّات عدة من أخذ قرارات ضد سياسة الحكومة والحكم العسكري.. مثل المطالبة بإلغاء الحكم العسكري أو قرارات ضم أراض أواستنكار مجزرة كفر قاسم وغيرها ...

التعذيب

السلطه رأت في الشيوعيين، وبحق، خطراً على سياستها اتجاه العرب. فتفنّنت في مطاردتهم وفي تضييق الخناق عليهم وقطع أرزاقهم ومحاولة فرض عزلة عليهم بين أهلهم وأقاربهم، استخدمت معهم النفي والاعتقال والتعذيب ... بل وحتى القتل، كما  حدث مع أحد أعضاء الحزب في عيلبون، سهيل سليم زريق الذي أُحرق في غرفة بيته في 30.10.1952.

     وقد وضع الشيوعيون وأصدقاؤهم في القائمة السلطويّة السوداء. وكان توفيق زيّاد على رأس هذه القائمة بلا منازع. طاردوه ولاحقوه باستمرار. اعتقلوه مرات لا تحصى ولا تعد. فرضوا عليه الإقامة الإجبارية في البيت من مغيب الشمس حتى شروقها .. لسنوات طويلة، لحين انتهاء الحكم العسكري. وبعدها  "خففوا" القيود عليه ومنعوه من مغادرة المنطقة  "ط" (الناصره وقضاها وعكا) إلا بتصريح. وقد استمرت هذه القيود عليه حتّى انتخابه للكنيست في نهاية العام  1973. خمسة وعشرون عاما لم يعرف الحريّة في وطنه.

     وكان مثله عدد آخر من نشطاء الحزب وشعرائه، بينهم المحامي عبد الحفيظ دراوشة، أحد الذين كانوا من أصدقائه الحميمين. وقد قرر الحزب إيصال قضيتهم الى المحكمة العليا. فاختاروا رفع القضية باسم دراوشه باعتباره محامياً، والإقامة تعرقل عمله ونشاطه، وكانوا يأملون من قضاة المحكمة العليا، وهم رجال قانون أن يرفضوا تقييد حريّة زميلهم رجل القانون. ولكن عبثاً، فقد صدر قرار المحكمة العليا يوم 30.09.1969 برفض الدعوى ورفض التدخل في الاعتبارات الأمنيّة لدى قائد اللواء الشمالي في الجيش الذي أصدر أوامر الإقامة.

ولكن حتّى هذه التقييدات لم تكفِ حكومة إسرائيل. ففي سنة 1967، خلال الساعات الأولى قبل وبعد شن الحرب على الدول العربيّة، قامت باعتقال عدد كبير من الشيوعيين العرب اعتقالاً "وقائيا". وكان بينهم توفيق زيّاد وسائر الذين يحملون أوامر الإقامه. فالدولة التي هزمت أكبر الجيوش العربيّة كانت تخشى تلك المجموعة من المناضلين.

     بيد أنّها لم تكن مجرد خشية. وفي عدة مراحل أظهرت السلطة عداءً مرعباً وحقداً جنونياً عليهم عموماً، وعلى توفيق زيّاد بشكل خاص. ومشهورة تماماً قصة تعذيبه وصلبه في طبريّا سنة 1954.

    بهذه القضيّة مرتبطة عدة قضايا أخرى تعكس شخصيّة توفيق زيّاد واهتماماته ودوره البطولي في حياة شعبه. وقد تطورت الأمور فيها لدرجة صدور قرار من محكمة العدل العليا يعتبر بمثابة سابقة قانونيّة، مسجلّة في كتب القوانين تحت عنوان: "المستشار القضائي (للحكومة) ضد توفيق زيّاد والاستئناف المضاد". وتدرس هذه السابقة لطلاب القانون في الجامعات الإسرائيليّة.

     واليكم التفاصيل:

     تعود القضية إلى مطلع عام 1954 حينما فرضت الحكومة على المواطنين العرب ضريبة الرأس. وبموجبها يدفع كل مواطن عربي (اليهود لا يدفعون بسب خدمتهم في الجيش) ضريبة موحدة. وقد ثارت ضجة كبرى بين المواطنين وأقيمت عدة إجراءات احتجاجية، بينها إعلان الإضراب قي مدرسة عرابة الإبتدائية (16.03.1954) والسير في مظاهرة انطلقت من المدرسة وانتهت عند الجامع باجتماع شعبي.

     مثل هذه النشاطات لم تكن سهلة. وقد رأت فيها السلطة تحديا سافراً. فردت عليها باعتقال أعضاء الشبيبة الشيوعية والتلاميذ الذين نظموا هذا النشاط، ونشرت جوّاً من الإرهاب في القرية.

     وعليه قرر الحزب تحدي السلطة مرّة أخرى وعقد اجتماع شعبي إحتجاجي في الساحة العامة في القرية، بهدف رفع معنويّات المواطنين، واختير توفيق زيّاد لإلقاء الكلمة المركزيّة. وقد كان ذلك اجتماعا تاريخياً، من حيث الحضور والأثر، وكعادته ألهب توفيق زيّاد الأجواء .. "فنحن لا نرضخ للقوّة والإرهاب".

     وخلال أقل من 24 ساعه اعتقل توفيق زيّاد في الناصرة بتهمة  "الشغب". وأخذوه إلى معتقل طبريّا، المعروف بقسوة ظروفه وسجّانيه، وهناك حاولوا تحطيمه، بالضرب والإهانات والشتائم والتعذيب. ولكن هيهات، فقد رد على كل شتيمة وعلى كل ضربة، وجن جنون رجال الشرطة، فتجمّعوا عليه كلهم .. لدرجة أنه لم يتمكن من إحصاء عددهم، وراحوا يضربونه بهستيريا .. كيفما اتفق وبدون تمييز. لكنه لم يرضخ لهم، ولم يكف عن الرد، وأصاب عددا منهم، وجاء ضابط متمرس على ما يبدو وأمرهم بإسقاطه على الأرض، وسقطوا فوقه كي لا يتحرك، ثم ربطوا يده في أعلى بوابة الزنزانة، وخلال ذلك واصل الرد عليهم بيده الثانية وبقدميه. وكانوا كل مرّة يهجمون من جديد، على يده فقيدوها بالأغلال، ثم على قدمه ثم على القدم الثانية، فبات مصلوباً على بوابة الزنزانة. واقترب منه الضابط وأمسكه بذقنه فضربه برأسه، فأمر رجاله بربط رأسه بالحديد. عندها اقترب منه وأمسك به من شعر رأسه وشده بقسوة وهو يشتمه، فما كان من توفيق زيّاد المصلوب إلّا أن يستعمل سلاحه الأخير: فبصق في وجه الضابط.

     قد تبدو هذه القصّة أسطوريّة، لكنها رويت من عدّة مصادر بما في ذلك من شهود عيان من بين السجناء. أحدهم، يهودي من أصل يوغوسلافي، شهد بالمحكمة بهذه الرواية.

     فالشرطة، على طريقة "ضربني وبكى سبقني واشتكى"، قدمت شكوى ضد توفيق زيّاد ... بتهمة "الشغب". وحوكم في المحكمة العسكريّة في عكّا، حيث بدا وكأن توفيق زيّاد هو المعتدي. بينما قدّم هو شكوى مضادة عن تعذيبه. لكن المحكمة أصدرت قرار حكمها بعد أكثر من سنة (في  25.10.1955) بالسجن 40 يوماً.

     ولا تنتهي الحكاية هنا.....

السابقة القانونيّة

بعد خمسة أيّام من صدور قرار الحكم، "تمتع" خلالها توفيق زيّاد بالحريّة، كما قال لرفاقه، توجه إلى شرطة الناصرة من أجل تنفيذ الحكم بالسجن.

     وهنا "تلقفه" قائد المحطّة، وندرمان، الذي كان توفيق زيّاد قد تسبّب بطرده من جلسة البلديّة. وبدلاً من إرساله إلى سجن الدامون، حيث من المفروض أن يقضي محكوميّته، أرسله إلى معتقل طبريّا مرة أخرى ... بحجة أنه "محطة تصنيف".

     في طبريّا أيضاً "تلقفه" مسؤولو السجن، وبدلاً من إرساله في اليوم التالي إلى الدامون، كما جرت العادة، أبقوه خمسة أيّام لديهم. والسبب معروف. ففي السّاعة الخامسة من فجر اليوم التالي، دخل إلى زنزانته شرطيان (ابراهم غرشون ويعقوب ابرهام) وأيقظاه من النوم بفظاظة بالغة. ولماذا؟ طلبا منه أن يحضر مكنسة ويكنس الغرفة.

     فهم توفيق زيّاد على الفور ان المسألة مسألة استفزاز وانتقام. فرفض، وعاد إلى فرشته. وهاذا ما كان ينتظره غرشون على مايبدو، فراح يشتمه بأقذع الشتائم. وغادرالغرفه ليعود بعد دقائق وهو يحمل المكنسة، ورفسه بقدمه وواصل شتمه وصاح : "قم كنس .. يا ابن الـ ..." وهنا، هب توفيق زيّاد واقفاً وأخذ المكنسة من الشرطي وكسرها على رأسه.

     وكالعاده تجدد الضرب، وقدمت شكوى أخرى ضده بتهمة الاعتداء على رجلي شرطة في أثناء تأديتهما واجباتهما. وأخذوه إلى محكمة الصلح في الناصرة، وما زالت آثار الضرب بادية على وجهه. فأصدر القاضي الحكم عليه بالسجن الفعلي 9 أشهر ودفع مصاريف المحكمة وغرامة بقيمة 100 ليرة.

     وقد استأنف الحكم الى المحكمة المركزيّة في حيفا. فقبلت هذا الاستئناف، وبرأت توفيق زيّاد من تهمة الاعتداء على الشرطي يعقوب. وخففت الحكم عليه بالنسبة لضرب الشرطي غرشون، من 9 أشهر سجن فعلي إلى 6 أشهر سجن مع وقف التنفيذ، لكنها رفعت الغرامة من 100 ليرة الى 300 ليرة.

     على اثر ذلك استأنف الطرفان ضد هذا الحكم، النيابة وتوفيق زيّاد، الى المحكمة العليا، وقد أصدر القضاة الثلاثة (أولشن، رئيساً، واغرنات وفيتكون عضوين) قراراً في ختام ثلاث جلسات (آخرها يوم 19.08.1958) أصبح بمثابة سابقة قانونيّة مفاده: ليس من حق رجل الشرطة الذي يقوم بمهمة حارس في معتقل أن يتعامل مع السجين كسجّان، فيأمره باي عمل يريد. فهذه مهمة تتم في السجون فقط وفي إطار عمل منظم.

يلقي خطاب في مناسبة يوم الارض.jpg

 محاولات الاغتيال

     لقد ظلّ توفيق زياد مستهدفاً من السلطة، طيلة حياته. لا نعرف بالضبط ما هي الخطط التي وضعت لأجل كسره. وسيأتي يوم تكشف فيه أمور بالغة الخطورة في هذا الشأن. لكننا نعرف أن هناك، في السلطة، من خطط لقتله ...

     لقد رؤوا فيه واحداً من الرموز الأساسيّة لصمود شعبنا وتصديه لسياسة الحكومة وممارساتها المعادية للعرب. واعتقدوا أنهم بكسره سيكسرون شوكة هذا الشعب.

     عدد الاعتداءات التي تعرض لها بيته، حتى وهو عضو كنيست ورئيس بلديّةن لا يحصى. في كل يوم إضراب عام للجماهير العربيّة هاجموا بيته بالذات وعاثوا فيه خراباً واعتدوا على من فيه.

     قصته في يوم الأرض معروفة، فعندما حاولت الحكومة إفشال إضراب يوم الأرض (30 آذار 1976)، الذي قرّرته لجنة الدفاع عن الأراضي، وأوعزت إلى رجالاتها من رؤساء السلطات المحليّة العربيّة (وكانوا يشكلون الأكثريّة) أن يجتمعوا ويصوتوا ضد الإضراب، تصدى لها ولهم توفيق زياد، الذي كان قد تسلم منصبه رئيساً للبلديّة لأول مره فقط قبل 3 أشهر. وقد حاول عدد من الرؤساء الاعتداء عليه جسدياً، ونجحوا في تمرير القرار، لكنه أثبت لهم أن هذا القرار كان حبراً على ورق، فالقرار للشعب، والشعب قد أعلن الإضراب. ونجح الإضراب وكان شاملاً. فنظمت السلطة اعتداءاتها، وقتلت الشباب الستّة، وجرحت المئات، وهاجمت بيت توفيق زياد: "سمعت الضابط بأذني وهويأمر رجاله "طوقوا البيت واحرقوه" تقول نائلة زيّاد.

     ويتكرّر الإعتداء في إضراب صبرا وشاتيلا (1982) وفي إضراب يوم السلام (1988) وفي إضراب ريشون لتسيون (1990) وفي إضراب (1994) ... وفي مرات كثيرة أصيب أفراد بيته وضيوفه بالجراح جراء الإعتداءات.

     وكانوا ينفذون الإعتداء وهم يبحثون عن توفيق زيّاد شخصياً، حتى في الإضراب الأخير (شباط 1994)، وتوفيق زيّاد يقود كتلة الجبهة البرلمانيّة في الجسم المانع الذي بدونه ما كانت تقوم حكومة رابين، اطلقت الشرطة قنبلة غاز عليه شخصياً وهو في ساحة الدار.

     غير أن أبشع الإعتداءات كان في أيّار 1977، قبيل انتخابات الكنيست، اذ جرت محاولة اغتياله، ونجا منها بأعجوبة. حتى اليوم لم تكشف الشرطة عن الفاعلين، لكن توفيق زيّاد عرفهم، واجتمع بهم، وأخبروه عن الخطّة وتفاصيلها ... وكيف نفذوها.

     كان القرار قتله وهو عائد من اجتماع شعبي إنتخابي في قرية طمرة، ولكن توفيق زيّاد لم يعد وحده. وقد أصّر رفاق الحزب في طمرة على أن يوصلوه إلى بيته، فسافروا معه بسيّارته وأحضروا معهم سيارتين. فقرر القتلة تغيير الخطّة وقتله وهو صاعد إلى بيته في الناصرة، وهذه المرة فشلوا أيضاً، إذ أصر توفيق زيّاد على أن يستضيف الرفاق الذين أوصلوه، ويشربوا فنجان قهوة، فغيروا الخطة مرة ثانية. وعندما غادر الطمراويون البيت. كمن القتلة أمامه بانتظار ظهور توفيق زيّاد في غرفة الصالون المطلّة على الشارع. وانتظروا فترة طويلة كان خلالها توفيق زيّاد يقرأ الصحف في غرفة النوم، وعندما فرغ من القراءة أخذ الصحف ليضعها على طاولة مكتبه في غرفة الصالون. وفي هذه اللحظة بالذات أُطلق الرصاص بكثافة من رشاش. فاخترق الرصاص الشبابيك (ما زالت آثاره محفوظة حتّى اليوم)، لكنّه لم يصب بأذى.

     لقد تبين أن مدبر خطة الإغتيال مسؤول سلطوي عمل بالتعاون مع أحد رجالات السلطة الكبار في الوسط العربي.

مرحلة أعلى من النضال

     في حديث تلفزيوني مطوّل بثته شبكة تلفزيون دبي بعد أيّام من وفاة توفيق زيّاد، تكلم عن عدّة مراحل ومحطّات في تاريخ الجماهير العربيّة الفلسطينيّة في إسرائيل.

     وقال أنه بعد "محطة النضال من أجل البقاء في الوطن"، جاءت محطّة تبلور هذه الجماهير كأقليّة قوميّة في دولة إسرائيل تكافح من أجل حقوقها في المساواة. وفي أواسط الخمسينيّات خاضت المعركة من أجل تثبيت الهويّة القوميّة العربيّة الفلسطينيّة. وقد بلغت هذه المعركة أوجها في سنة 1958، عندما كانت إسرائيل تقيم احتفالات "العاشور" (عشر سنوات على قيام الدولة). وجاءت تلك الاحتفالات بعد قيام حكومة إسرائيل بالعدوان الثلاثي على مصر وبعد مجزرة كفر قاسم، إذ بلغت سمعتها الحضيض في العالم. فأرادت تبييض وجهها بالمواطنين العرب عن طريق إظهارهم سعداء ومحتفلين باستقلال الدولة. فرصدت ميزانيّة كبيرة لإقامة عشرة احتفالات بالعاشور في البلدات العربيّة ونظمت راقصة شرقيّة وفرق غنائية.

     وكان أول الإحتفالات "العربيّة" في مدينة الناصرة وحضره وزير الشرطة ورئيس البلديّة والعديد من المسؤولين. وقد قرّر الحزب الشيوعي في المدينة إفشال الاحتفال بأي ثمن. وهكذا كان. فعلى الرغم من شدة المراقبة والحراسة تمكن عدد من أعضاء الحزب الشبان والشبيبة الشيوعية من التسلل إلى مكان الإحتفال، وهو ساحة مكشوفة خلف كنيسة البشارة للروم الأورثوذكس. وما أن بدأ الوزير بإلقاء كلمته حتّى بدأت تتطاير الكراسي في سماء الإحتفال. وهرب الحاضرون إلى كل الاتجاهات.

     لقد كان ممثلو وسائل الإعلام المحلية والعالمية في ساحة الاحتفال لدى إفشاله. وعلى الرغم من تواضعهم في الكتابة عن الموضوع، فإن سلطات الحكم العسكري تعلمت الدرس وأوقفت احتفالاتها. ثم تفرغت للانتقام من الحزب. وكان ذلك بمنعه من إقامة مظاهرة الأول من أيّار في الناصرة وفي ام الفحم. فرفضوا إعطاء تصريح.

     وجاء الرد حازماً من الحزب: تنظيم المظاهرة في نفس اليوم (أول ايار)، ولكن بشكل سرّي ومفاجيء. وهذا ما حدث. فقد انتشرت قوات الشرطة في كل مكان في المدينة. وما هي إلّا لحظات حتى كان أكثر من ألف إنسان يتظاهرون في الشارع الرئيسي ويرفعون شعاراتهم ويخطب فيهم الخطباء. فأُعطيت الأوامر بتفريق المظاهرة بالقوّة. وبدأت عمليّات اعتقال واسعة النطاق ضد أعضاء الحزب، لم يشهد مثيلا لها حتّى في أسوأ ايام الاستعمار البريطاني، فقد شملت الحملة 350 عضوا وصديقا، وصدرت بحقهم أحكام بالسجن عدة أشهر وبعضهم عدّة سنوات. ومن سخريات القدر أن المحكمة التي حاكمت مرتكبي مجزرة كفر قاسم التي راح ضحيتها  49 عربيا مدنيا، بينهم الأطفال والنساء، أصدرت حكمها في نفس تلك الفترة، وقد حكمت على المسؤول العسكري شدمي بدفع غرامة قرش واحد.

     لقد كان توفيق زيّاد، بين مئات المعتقلين المذكورين. وحكم عليه بالسجن ستة أشهر. وكانت هذه فترة إنتاج شعري خصبة للشاعر توفيق زيّاد. وبدا ما كتبه هنا نوعاً من المراجعة الفكريّة التي استعرض فيها تاريخه، ومواقفه من كل شيء، مناضلاً ومحباً وعاشقاً للوطن وذا انتماء طبقي واضح وشيوعياً أصيلاً:

 

يا أمي التي في عنقها الأغلال

يا شعبي الذي يريده الطغاة

 أن يقبل النعال

يا شارعاً تزحم فيه بعضها

مواكب الرجال

يا إخوتي العمال

احبكم جميعاً

احب كل قبضة مهزوزة

في أوجه الأنذال

وكل جبهة شامخة

في ساحة النضال

وكل كلمة جريئة....تقال

إلى العالم الواسع

كان توفيق زيّاد، الى جانب نشاطه الواسع، محبا للعلم وللدراسه. ففي آب  1962 استقال من عضويّة البلديّة وسافر الى الإتحاد السوفييتي حيث درس في المدرسة الحزبيّة، الفلسفة والاقتصاد الاجتماعي.

     وهناك تجلّى الإنسان صاحب العرفان، الذي قدّر للإتحاد السوفييتي ما يعطيه لشعوب العالم من مساعدات باستضافته عشرات ألوف الطلبة الجامعيين وبتقديمه المال والغذاء والسلاح والدعم السياسي لمعظم الدول الفقيرة وحركات التحرر الوطني. وبُهر بما يقدمه هذا البلد من دعم للفن والأدب وصيانة التراث وتمجيد المقاتلين ضد الوحش النازي. ودوّن كل هذا في كتاب اسماه: "نصراوي في الساحة الحمراء"، كتب بأسلوب شاعري لكن بصدق الإنسان الطيب المستقيم.

     وهنا أيضاً بنى توفيق زيّاد علاقات واسعة بالناس، وظهرت لديه موهبة اتقان لغة التخاطب. فتعلم الروسيّة بسرعه لتُضاف إلى اللغات العربيّة (الأم) والإنجليزيّة (تعلمها في المدرسة) والعبريّة (تعلمها في السجون ومن مطالعة الصحف).

     عندما عاد توفيق زيّاد من الإتحاد السوفييتي في العام 1964، انتخب سكرتيراً لفرع الناصرة للحزب الشيوعي. وقد كان واضحاً أنّه جاء مشحوناً بالحماس الملتهب للفكر الإشتراكي ولأهميّة تطّور الحزب وتقويته ونشر أفكاره. فحرث البلاد بطولها وعرضها يقدم المحاضرات ويشارك في الندوات. وبرز كمحاضر ناجح وجذّاب، فلم تكن محاضراته "ناشفة" أو "مملة". ملأها بالنماذج والأمثلة من الحياة نفسها. حافظ على روح مرحة في تقديمها، وقدم التحليلات العميقة للأحداث السياسيّة العامة والقضايا المحليّة بنظرة شمولية وأفق رحب وبتفاؤل. "أنا واقعي، ولكنني متفائل دائما بالمستقبل"، ظل يقول حتّى أيّامه الأخيرة.

Scan_20210708.jpg

 الإستقرار .. والعودة إلى الأدب

     في سنة  1966 (31 آذار) تزوج توفيق زيّاد من رفيقة دربه نائلة يوسف صبّاغ، وهي من عائلة شيوعيّة عريقة. وكان زواجهما حدثاً صارخاً في حياة المدينة. فهو من عائلة مسلمة، وهي من عائلة مسيحيّة، وقد تمّ الزواج برضا عائلتيهما، وأقيم لهما عرس رسمي.

     في ظروف طبيعيّة من المفروض أن يكون هذا الزواج عادياً جداً. خصوصاً وان العائلتين مقتنعتان بالأمر وبعيدتان عن التوجه الطائفي. لكن الأمر أثار ضجّة في الناصرة، وحتى في صفوف الحزب الشيوعي، حزبهما، كان هناك من اعترض وحاول الضغط لإبطال الزواج. ولكنهما وعائلتيهما أصرّا على مواصلة الطريق مؤكدين الأمر المبدئي: طالما أنهما متحابان متراضيان فكل شيء آخر يصبح ثانوياً.

     وقد ارتبطا في زواج مدني، وحافظ كل منهما على دينه بدون أي ضغط أو محاولة تأثير من الواحد على الآخر لتغيير دينه. وكان ذلك زواجاً متوافقاً وناجحاً تفاهم فيه الطرفان حتّى آخر لحظه في حياة أبي الأمين.

     المشاكل التي نشبت اثر هذا الزواج مع بعض أعضاء الحزب ادت إلى نقل توفيق زيّاد الى العمل رئيساً لتحرير مجلّة الجديد الأدبيّة. وقد اعتبر توفيق زيّاد هذا نفيا له لإبعاده عن الناصرة. ولكنه أحب هذا النفي فيما بعد، إذ أفسح له المجال للتفرغ للكتابة، حلم حياته الأساسي.

     لقد أحب توفيق زيّاد عمله السياسي ونضاله القاسي وأعطى له جل وقته. ولكنه أحب الإبداع الأدبي أكثر، خصوصا وأنّه رأى في شعره أيضاً وسيلة نضاليّة.

     فقد تناولت معظم قصائده قضايا شعبه الوطنيّة وعبرت عن هموم هذا الشعب في حياته اليوميّة، وعكس فيها موقفه الطبقي والأممي. وعناوين قصائده تدل على ذلك: "شيوعيون"، و "إلى عمال موسكو"، و "أمام ضريح لينين"، و "مصر 1951" و "إلى عمال آتا المضربين" و "من وراء القضبان" و "ضرائب"، و "كوبا"، و "بور سعيد"، و "ادفنوا امواتكم وانهضوا"، و "ثلج على المناطق المحتلّة"، و"كفر قاسم"، و "رمضان كريم" و "مرج ابن عامر" و "شهداء الحريّة" و "أناديكم" و "عمان في أيلول" و "حبيبتي أم درمان" و "ايبي ناتان" .. الخ..

     وقد كان الخطاب المباشر في قصائده بارزاً لدرجة جعلت بعض النقاد يرونه نقصاً في الأداة الفنيّة والصورة الشعريّة. إلا أن ذلك لم يقلّل من اعتباره مبدعاً وأصيلاً بل أحد أكبر الشعراء العرب وأحد أبرز شعراء المقاومة، فإذا كان الشعر فناً لمجرد الفن، فإن توفيق زياد لم يكن شاعراً متألقاً. لكن إذا كان الشعر تعبيراً جمالياً وغذاءً إنسانياً وموسيقى راقية وأداة كفاحيّة ورأياً حراً وفكرة إبداعية. فإن توفيق زياد كان شاعرا ممتازاً. فكم بالحري إذا كان شعره سهل الحفظ للناس البسطاء، وهو السهل الممتنع. وكم بالحري إذا كان شعره من أكثر الأشعار التي لحنت وأصبحت أغاني في عالمنا العربي؟!

     ولكن مساحة الشعر لم تكف لسباحة توفيق زيّاد. فولج إلى عالم القصّة من باب إعادة إحياء التراث وكتابة قصصه الشعبيّة من جديد، فسافر من بلدة إلى أخرى يلتقي المسنين والمعمرين ومحبي التراث ويستمع إلى قصصهم ويدونها ويجري المقارنات بين الروايات المختلفة للحكاية نفسها ويضيف ويجري التعديلات ويعيد الكتابة. وقد نشر العديد منها في الجديد، ثم جمعها في كتاب بعنوان "حال الدنيا"، طبع في آن واحد في العراق وفي بلادنا. وبدأ باعداد مجموعة أخرى وجهز قسماً منها للطباعة. لكنه لم يكمل هذا المشروع.

     فقد عاد للعمل الحزبي... والبلدي، ثم سافر الى تشيكوسلوفاكيا ممثلا للحزب في مجلة قضايا السلم والإشتراكيّة، وهي مجلّة للحركة الشيوعيّة العالميّة، ومسؤولا عن الطلّاب الذين سافروا في بعثات حزبيّة تعليمية إلى جامعات اوروبا الشرقيّة. وفي تلك الفترة استدعاه الحزب استعداداً لمعركة انتخابات الكنيست. وأبلغ انه مرشح في مكان مضمون لعضويّة الكنيست. وكان القرار مفاجئاً له. قال لي: "علقوني علقه"، هكذا تروي أم الأمين على لسانه.

     وقد نشبت حرب أكتوبر 1973 فتم تأجيل الإنتخابات شهرين إضافيين إلى (31 كانون أول 73)، وانتخب نائباً في الكنيست لأوّل مرّة.

Scan_2260706.jpg

العمل البرلماني 

على الرغم من الجو الصاخب الذي جرت فيه انتخابات الكنيست بعد حرب أكتوبر والهجوم اليميني الكاسح على حزب العمل واتهامه بالفشل والفساد، وجد اليمين الوقت ليشن هجوماً شرساً على توفيق زيّاد واعتبروه خصماً لدوداً. فبادروه بهجمة شرسة وتحريض دموي عليه بسبب قصيدته الشهيرة "العبور الكبير".

     لقد تنبأ توفيق زيّاد بهذا العبور بعد نكسة العرب في سنة  1967، عندما كتب قصيدته الشهيرة  "كلمات عن العدوان". وفيها قال:

" من هنا مروا إلى الشرق غماماً أسودا

يقتلون الزهر والأطفال والقمح وحبات الندى

من هنا سوف يعودون وإن طال المدى"...

*

" لا تقولوا لي انتصرنا ..

ان هذا النصر شر من هزيمة"...

*

 

"أيُّ أم أورثتكم يا ترى نصف القنال ؟!

أيُّ أمٍ أورثتكم ضفة الأردن،

سيناء .. وهاتيك الجبال؟

إن من يسلب حقاً بالقتال

كيف يحمي حقه يوماً، إذا الميزان مال؟!"

*

     ولذلك فإن عبور القوات المصريّة قناة السويس وتحرير قسم من سيناء، فجر لديه مشاعر الإعتزاز. فهو الذي فرح لكل شعب تحرّر من الاستعمارفي العالم، كيف لا يفرح لما تنبأ به لشعبه. فنظم قصيدة  "العبور" التي مجّد فيها ذلك التحرير. وكتب يقول:

"طويلاً كان الليل طويلاً كان

وثقيلاً كان العار ثقيلاً كان..

وعميقاً كان الجرح عميقاً كان..

حتّى اللقمة كانت ذلّاً وهوان ..

أمّا الآن ..الآن.. الآن..

فالفرح المسقي دماً

ينبت في كل كيان وكيان

بردا وسلاما

ينبت ورداً وشقائق نعمان ".

     لقد طالب اليمين الإسرائيلي بمنعه من دخول الكنيست، واعتبروه طابورا خامساً، وطالبوا بنزع حصانته البرلمانية لمحاكمته. وكعادته في كل ساحات المعارك، تصدى لهم بشجاعة وتحد، ودخل إلى الكنيست برأس مرفوع. وعندما ولدت له بنت أسماها "عبور"، على اسم القصيدة وتيمنا بالعبور الكبير.

     وعندما أصدر العنصري كينغ وثيقته "لمواجهة التكاثر الطبيعي بين العرب"، ولد في الفترة نفسها الإبن الأصغر فارس. فبعث توفيق زياد ببرقيّة إلى كينغ يبلغه فيها بالنبأ و "يعزيه" بأن العرب زادوا طفلاً، وكتب له أنه سيربيه على روح النضال من أجل البقاء في الوطن ومن أجل السلام العادل.

     وكان هذا المثل نموذجا مصغراً لأسلوبه، الذي رافقه طيلة عمله البرلماني.. وامتد بشكل متواصل حتى سنة 1990، ثم تجدد في الانتخابات الأخيرة (1992) عندما ترأس قائمة الجبهة.

     لقد كان رأس الحربة في التصدي لليمين الفاشي والعنصري. واجههم بحقيقتهم دائما، وذكرهم بأنهم في خندق واحد مع أعدى أعداء اليهود، وعرّى الليكود الذي يحتضنهم ويسايرهم.

     ولكن توفيق زيّاد لم ينس انه عضو كنيست ليس فقط لصد اليمين وحرص على مقارعة حزب العمل وأحزاب اليسار الصهيوني في الكثير من القضايا المختلف عليها، على سبيل المثال في حرب لبنان، عندما وقف كل أعضاء الكنيست في حلف واحد، باستثناء الجبهة، مؤيدين الحكومة على غزوها الاحتلالي. واهتم بشكل خاص في قضايا الجماهير العربية والمواطنين عموما اهتماما خاصّا. فتابع كل قضية وصلت إليه. وتبنى بشكل خاص قضايا السلطات المحلية العربية وقضايا الأرض والتعليم وسجون الإحتلال وممارساته القمعية. وكثيرا ما أثارت خطاباته ضجة كبرى في الكنيست، لإنه كان حادا في الرد على العنف الدموي والكلامي وعلى الاستفزازات العنصريّة. وقد أخرج عدة مرّات من جلسات الكنيست نتيجة لرده الذي لا يعرف الرحمة والهدوء ازاء التفوهات والتهديدات العنصريّة.

     وكان ظهوره في الكنيست ومواقفه سببا في شن حملة تحريض دموية عليه في وسائل الإعلام. وشوهوا صورته، وحاولوا، بشكل منهجي قتل شخصيته. والكثير من الناس الذين تأثروا بهذه الحملات، بشكل خاص من المواطنين اليهود، كانوا يعترفون له بانهم فوجؤوا بحقيقته كإنسان إنسان، وبمواقفه المبدئيّة من أجل السلام العادل والتعايش اليهودي – العربي على أساس الاحترام المتبادل والاعتراف بالحقوق، وبشخصيته المرحة.

     وقد كان عمله البرلماني مرهقا. فاضطر إلى السفرمسافات بعيدة وإلى الانغماس في شتّى مجالات العمل. وهو من أعضاء الكنيست الجديين جدا في عمله، يحترم مسؤوليته. وكل موضوع يظهر فيه من على منصة الكنيست كان يحضر له جيدا. فيتصل بذوي الشأن ويجمع المعلومات الدقيقة ويدرس القضيّة من كل جوانبها، وفقط عند ذلك الحين يلقي خطابه، وكذلك الأمر كان يفعل في عمله في لجان الكنيست.

     ولهذا، كان طبيعيا أن يطلب التنحي من عضويّة الكنيست بعد 18 عاما من العمل. وعند استقالته سنة 1990 شعر بان جبلا قد أزيح عن كاهله، فتفرغ أكثر للعمل البلدي، وعاد الى نظم الشعر. واكتشف في نفسه هواية الرسم فبدأ بممارستها.

     لكن هذا  "العز" لم يدم طويلا. وما ان بدأت معركة انتخابات الكنيست الأخيرة، حتى كانت وفود الضغط الجبهويّة وغير الجبهويّة تتوافد إلى بيته وإلى مكتبه في البلديّة، طالبة بإصرار أن يرشح نفسه لرئاسة القائمة. وبعد عدّة أسابيع من الممانعة، رضخ للضغوط وخصوصا أنه كان يخشى من تشكيل قائمة أخرى لا تأخذ بالاعتبار الكافي مصادر تأييد الجبهة في الشارع. فقد خرج برأي يقول ان تركيبة كتلة الجبهة يجب أن تعكس قوة الجبهة.

Scan_20210706 (6).jpg

 رئيس البلديّة

     هنا أيضا، لم يخطِّط توفيق زياد ليكون رئيسا لبلديّة الناصرة، فعشية الإنتخابات البلدية اواخر العام  1975، وبعد ما كانت جبهة الناصرة الديمقراطيّة قد قررت مرشحها لرئاسة البلدية المرحوم الدكتور أنيس كردوش، توفي الرجل وشغر مكانه. عندها تقرر ان يكون توفيق زيّاد هو مرشح الجبهة.

     وكان أبو الأمين قد بنى له رصيدا شعبيا غنيا. وأهل الناصرة هم أكثر من يعرفونه ويعرفون سماته الأساسيّة. وقد كان قانون الانتخاب الشخصي لرئيس البلدية مازال حديثا ويستعمل في إسرائيل لأول مرّة في انتخابات الناصرة التي جرت بشكل منفرد (وليس سويّة مع السلطات المحليّة في البلاد)، ويقال أن فصلها عن بقية الإنتخابات استهدف امرا واحدا هو التفرغ السلطوي للناصرة لمنع فوز الجبهة.

     والنتيجة معروفة: 67% من الناخبين صوتوا لتوفيق زيّاد، وفازت الجبهة، آنذاك، بالأكثريّة المطلقة (11 عضوا من مجموع 17). وكان يوم الانتخابات 9.12.1975 بمثابة منعطف تاريخي ليس فقط في حياة الناصرة بل الجماهير العربيّة عموما في إسرائيل وكذلك في المناطق المحتلة. فعلى اثر انتصار الناصرة، بدأت تقوم الجبهات الديمقراطيّة في معظم القرى والمدن العربيّة وتأسّست الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، وفازت الجبهة بخمسة مقاعد في الكنيست عام 1977 وفازت الجبهات المحليّة برئاسة 21 مجلساً محلياً وبلدياً (1978). وفي المناطق المحتلة أيضاً استفادوا من تجربة الناصرة وشكلّوا جبهة وطنيّة خاضت الإنتخابات البلديّة ففازت بكل رئاسات السلطات المحلية (سنة 1976) في القرى والبلدات المحتلة. وفي حينه صرّح المناضل بسام الشكعة، رئيس بلدية نابلس المنتخب آنذاك: " ان انتصار رؤساء البلديات، في الضفّة الغربيّة المحتلة، هو اشعاع من النور الذي سطع في سماء الناصرة". وادّى توفيق زيّاد دورا شخصيا في كل هذه المعارك.

     أمّا في إطار العمل البلدي النصراوي فقد أحدث توفيق زيّاد ثورة عارمة من الصعب إحصاء أثرها الحضاري على جماهير شعبنا في مثل هذه العجالة.

     وكانت أول خطوة له : فتح جلسات المجلس البلدي أمام الجمهور، وهو الأمر الذي حلم به واقترحه في أول جلسة مجلس حضرها عام 1954 ولم يتحقق. ويحطم بذلك السور الذي أقيم بشكل مصطنع، خلال عشرات السنين، بين البلديّة وبين جمهور المواطنين الذي انتخبها.

     ويتوالى الإبداع الوطني المسؤول في عمل البلديّة لتكون الناصرة رائداً طليعياُ ومثلا يحتذى به:

     فأولاً: لم تعد البلدية مرتعا للسلطة تأتمر بأوامرها وتدافع عن سياستها العنصريّة، بل رأس حربة في الكفاح ضد سياسة التمييز ومن أجل الحقوق. ومن الجلسة الأولى، أعلن رئيس البلدية توفيق زيّاد: المطلب: مساواة الناصرة في الميزانيات العادية والتطويريّة مع البلدات المساوية لها في عدد السكان. وأكد: نريدها علاقة احترام متبادل. من جهتنا نقوم بواجبنا في إدارة البلديّة بنظام وبنظافة يد وحسب القوانين ونطلب أن نعامل بالشكل نفسه. لكن السلطة استصعبت ذلك. فراحت تحارب البلديّة وتفرض عليها سياسة خنق مالي. فتعجز حتى عن دفع المعاشات للمستخدمين. ولكنها تصمد، وتخوض المعارك الشعبية ضد سياسة الخنق هذه. وتعلن الإضرابات. ويرتفع صوت الناصرة في العالم أجمع: "أعطوا الناصرة حقوقها". وتجند البلديّة المواطنين من أهالي المدينة. وبعد ثمانية أشهر من تسلم الجبهة إدارة البلدية تقرر الرد على هذه السياسة بمظاهرة من نوع جديد: فتم تنظيم مخيمات العمل التطوعي الأول، الذي نفذت فيه عدّة مشاريع تنظيف، وشارك فيه حشد كبير من الأهالي. وكان أكبر مظاهرة تأييد للبلديّة ولشعارها الراسخ والعميق: "بلديّة كرامة وخدمات".

     وتمر السنون وتدور المعارك سجالاً، مع السلطة. وينجح رئيس بلدية الناصرة وبقية الرؤساء في اللجنة القطرية في جعلها معركة شاملة لمساواة السلطات المحلية العربية. وخلال هذه الفترة قفزت الميزانيات وتضاعفت عدة مرات. واتخذت الحكومة (في زمن شمير، سنة 1990) قرارا بالمساواة. وعادت حكومة رابين على القرار بشكل أوسع (مساواة كاملة وخطّة تطوير خلال 4 سنوات). وعندما توفي توفيق زيّاد، كانت المعركة من أجل تطبيق القرارات في أوجها.

     ثانياً: تحولت البلدية إلى معقل وطني. في كل بيان لرئيس البلدية أمام المجلس البلدي، يتطرق إلى مختلف هموم الشعب الفلسطيني وقضاياه المحرقة، ويكون للناصرة موقفها الوطني المشرف. وقيام توفيق زيّاد بزيارة غزّة (قبل يومين من وفاته) وتوجيه دعوة مفتوحه الى ياسر عرفات بزيارة الناصرة، هي نموذج واحد فقط.

     وكان توفيق زيّاد قد التقى عرفات مرات كثيرة، لقاءات سريّة (بدأت في عام 1973 في برلين). وتحدى القانون الذي يمنع اي مواطن إسرائيلي من الإلتقاء بممثلي منظمة التحرير الفلسطينية. وفي العديد من الأيام الوطنيّة لشعبنا كانت الناصرة طليعيّة في طرحها والمبادرة إليها، وإسماع صوت أهالي المدينة للعالم..إن كان في يوم صبرا وشاتيلا (إضراب عام للجماهير) ويوم السلام ويوم الاحتجاج على مجزرة ريشون لتسيون ويوم الاحتجاج على مجزرة الخليل وغيرها.

     ثالثاً: حوّل الناصرة إلى قلعة ديمقراطية، تستقبل المواطنين اليهود، من الجيران المترددين على المدينة، أو الزوار من مختلف أنحاء البلاد وخصوصاً الديمقراطيين اليهود أنصار السلام. فهؤلاء وجدوا حضناً دافئاً في هذه المدينة وتقديرا كبيرا لدورهم. وفي سنة 1986 أقيم معرض باشتراك 75 رساماً تشكيلياً يهودياً وعربياً من اسرائيل والمناطق المحتلّة. وهنا استقبلت فرقة "هبريرا هطبعيت". وكانت الناصرة، بلدية وشعبا، البلدة الوحيدة في إسرائيل التي كرمت ايبي ناتان، ومنحته شهادة مواطنة شرف على مواقفه السلميّة وبطولاته في المعركة من أجل السلام. وكذلك المناضلة الشيوعيّة المحامية فيليتسيا لانغر، التي هجرت البلاد إلى ألمانيا، والفنّانة سي هايمن، صاحبة أغنية "يطلقون الرصاص ويبكون" التي منع بثها في الإذاعة الإسرائيلية.

     رابعاً: أعيدت للناصرة مكانتها العالمية واسمها اللّامع الساطع. فهي مدينة مقدسة لدى مئات ملايين الناس في العالم. ولا بد من تسويقها سياحيا وتجنيد الدعم لها. وبالفعل قلما تجد من لا يعرف الناصرة ويسمع عنها. وقام رئيس البلدية بعدة جولات في العالم ساهمت كثيرا في رفع أسهم المدينة وإقامة العلاقات معها.

     خامساً: توطيد العلاقة بين الناصرة والبلدات العربيّة الأخرى وتعزيز مكانة المدينة كعاصمة للجماهير العربيّة. فتجد كل جلسة مجلس بلدي تتطرق إلى مختلف القضايا والاهتمامات في جميع البلدات العربيّة. "نحن نقف مع إخوتنا في رميّة ضد مؤامرة تشريدهم" ومع الأشقاء في النقب، وضد هدم البيوت، وضد مصادرة الأرض. ويكون التضامن متبادلاً، وتتوطد وحدة هذه الجماهير في المعارك العديدة المقبلة.. من أجل المساواة ومختلف القضايا العديدة المشتركة.

     سادساً: التأكيد على روح التآخي في المدينة بين جميع الأحياء والطوائف والعائلات ومواجهة كل نَفَس طائفي عنصري، أيا كان، بصراحة ومحاربة كل تعصب ودعم كل عمل مشترك والسعي الدائم لأوسع إطار وحدة ممكنة.

     وفق هذه الأسس، التي صاغها توفيق زيّاد، سارت الناصرة بلدية وشعبا. ومن سنة إلى أخرى زادت الميزانيات واتسعت الإهتمامات .. لتشمل الرياضة والشباب والفنون والأدب والثقافة.

     وفي السنوات الأخيرة، مع ظهور بوادر التغيير في سياسة الحكومة، أعدت إدارة البلدية بقيادة توفيق زيّاد، مشروعاً جباراً لتطوير الناصرة حتى العام 2000 (" الناصره 2000"). والذي منحه توفيق زيّاد كل طاقته. فطرحه أمام معظم الوزراء ورئيس الحكومة ورئيس الدولة ووسائل الإعلام المحلية والعالمية وأمام أهل الناصرة باعتزاز وأعتبره مشروع حياته، الذي لم يكتمل.

Scan_20210706 (2).jpg

 الإنسان الكبير

وراء كل ما عمل توفيق زيّاد في حياته الزاخرة، وقد عمل كثيرا، وراء كل نجاحاته أو حتّى هفواته، وراء قدرته على غزو قلوب الناس وغرس الثقة عندهم فيه وفي طريقه، وراء إنجازاته التي تشرّف كل قائد عظيم.. وراء هذا يقف ذلك الإنسان الكبير في داخل توفيق زيّاد. الإنسان الذي يحب الحياة حبا جما. يحب الناس، يحب لهم الخير والسعادة، ومستعد في سبيل تحقيقهما، أن يضحي بكل ما يستطيع.

     قد يبدو توفيق زيّاد لمن يستمع إليه عصبيا. لكن في جوهره كان إنسانا رقيقاً ومتسامحاً. فهو عنيف في الردعلى العنف. قاس في الرد على من يوجه له أو لشعبه الإهانة أو من يرى فيه خائنا للطريق وللأمانة. عن عملاء الإحتلال  قال: "حثالات إجتماعية حقيرة يجب نبذها".

     كره الإنتهازيّة والوصوليّة. مقت الإستغلال والظلم. واحتقرالأذلاء الذين يفتشون عن فضلات المائدة في صحن السلطات والذين يقبلون بالخنوع للسلطة والإذدناب بها. اعتبر "الوجهنة" جريمة كبرى.

     وبالمقابل أحب الإنسان العصامي الشجاع الوطني الصادق. وتعصب له. عند الاختلاف مع صديق كان يقول: "اختلاف الرأي لا يفسد الخلاف للود قضيّة"، و "أنت صديقي لكن الحقيقة أصدق". وكان يغضب الكثيرين عندما يقول الحقيقة من وجهة نظره، لكن احدا من المخلصين لم يحقد عليه. فالكل يعرف انه يقول ما يؤمن به بنيّة صادقة. فهو إنسان مستقيم شريف نظيف اليد، لا يطلب لنفسه شيئاً.

     صفة القنوع رافقته طول عمره واقترنت بتواضعه في رباط لا ينفصم. في بداية عمله في الإحتراف الحزبي كانت تمر عدة أشهر دون أن يقبض المعاش، ويتحمل. معظم سنوات عمله في الكنيست وكرئيس بلديّة. كان يحول معاشه إلى الحزب (كما جرى التقليد آنذاك)، ودون أن يعرف ما قيمته، وكان يقبض معاش الإحتراف الحزبي، وهو معاش جوع، ويكتفي به. لم يكن يسأل كيف تم تركيب المعاش ولماذا بهذه القيمة. وفي إحدى المرّات تبين أن هناك خطأ في المعاش يتكرر شهرا بعد شهر، ولم يكن هو الذي اكتشف هذا الخطأ.

     عاش في بيت متواضع. السنوات الأولى من زواجه عاش في غرفة ونصف الغرفة في بيت والديه، وهناك ولد نجلاه الأكبران وهيبة وأمين. البيت الذي بناه الزوجان على سطح البيت القديم، موّلاه من التعويضات التي قبضتها أم الأمين من عملها في مكتب المحامي حنا نقارة ( 800 ليرة، مازالت تذكر إلى اليوم). وقبل بضع سنوات فقط بدؤوا بتوسيع البيت. المره الأولى التي اشترى فيها توفيق زيّاد سيارة في البلاد، كانت سنة 1974، بعدما انتخب للكنيست. وهي سيارة قديمة (فولكسفاجن برازيليا) عمرها عشر سنوات على الأقل. وكان يحبها، وظل يقول عنها: "لم تخنّي أبدا"، بمعنى أنها لم تتعطل في الطريق.

     عندما انتخب رئيساً للبلديّة، كان بإمكانه أن يشتري سيّارة حديثة على حساب البلديّة، مثل كل رؤساء البلديات في البلاد، وهو أمر قانوني. لكنه لم يفعل. وظل يتنقل من سيارة قديمة إلى أخرى. والميزانية المخصّصة لسيارة حولت لشراء سيارة لإستعمال قسم الكهرباء في البلديّة. وفقط بعد 17 عاما من عمله في رئاسة البلديّة، في الدورة الأخيرة، اقتنع بضرورة شراء السيارة. لكنها لم تدم سوى أربعة أشهر، انتهت بمقتله في حادث طرق وهو يقودها.

     كان من حقه أن يعين سائقا يقود السيارة عنه، وهو لم يكن بالسائق الماهر. فضلا عن أنه يعمل بإرهاق. لكنه رفض ذلك. فهو لا يحب أن "يستخدم أحدا" لراحته الشخصيّة. وكان يأخذ سائقا فقط عندما يُحشر في الوقت ويكون مضطرا لكتابة خطاب أو تحضير مادّة ما خلال الطريق.

     علاقته بالموظفين الذين عملوا معه لم تكن علاقة رئيس ومرؤوس، سكرتيره الشخصي أصبح صديقه، زيارات عائليّة ونزهات مشتركة. الموظفون الذين عملوا معه في الكنيست بكوه بحرقة: "انا فقدت والدي قبل بضعة أشهر، لكني لم أبك عليه مثلما بكيت توفيق"، هكذا تقول داليا أبرمسون، التي تعمل سكرتيرة الكتلة منذ حوالي السنة: "عندما جئت الى العمل معه كنت أحمل فكرة أنه شيطان الكنيست. هكذا صوروه في مكان عملي القديم في كتلة منافسة وكذلك في وسائل الإعلام، فوجدت فيه النقيض التام. إنسان لطيف ومتواضع وإنسان إنسان. عنده لفتات رائعة، تجده يدخل إلى الغرفة فينشر جوا من المرح والراحة، يفاجئك: تعالوا نتغدى معا. ويأخذنا جميعا. لم نشعر بأنه رئيس الكتلة. عندما نويت الزواج أبلغته، باعتبار أنني سأتغيّب اسبوعا. فطلب مني اسم وعنوان زوجي. وفاجأنا بأنه اتصل مع زوجي وهنأه ودعانا سوية للعشاء ونظم لنا جولة في القدس الشرقيّة. زوجي أيضا، هو أحد جرحى حادث الباص 300، فوجيء بشخصه. لقد كان يسمع أنه الإنسان العنيف "الذي فجر مهرجان يوم الأرض في شفاعمرو"، كما جاء في وسائل الإعلام. لكنه وجد أمامه إنسانا آخر تماما.

     علاقته مميزة بعمال النظافة وصغار الموظفين، ليس فقط في الكنيست، بل في كل مكان يذهب إليه. يحاول أن يشعرهم بقيمتهم كبشر فهو رجل المستضعفين في الأرض. لهم يغني ومن أجلهم يكافح وبهم يؤمن ويثق. وقد أثرت هذه النظره على تفكيره السياسي والأيديولوجي أيضا. لذلك، فإنه عندما انهار الإتحاد السوفييتي والدول الإشتراكيّة الأخرى لم يضيع البوصلة ولم يفقد الثقة. كان يقول: "الاشتراكيّة كانت وستبقى حلم الإنسانيّة الأكبر. فهل الشعوب يمكن أن ترفض العدالة الإجتماعيّة؟" وقد اعتبر ما حدث في الشرق: "فشل نموذج من نماذج التطبيق الاشتراكي، علينا أن نأخذ منه العبر، ونستفيد من التجربة. فالنظريّة الماركسيّة – اللينينيّة ديناميّة. تتطوّر. ويمكننا أن نغيّر حتّى في النظريّة. لكن الفكرة الأساس، الاشتراكيّة، نتمسّك بها". وسعى إلى إحداث تغييرات في العمل الحزبي الداخلي، باتجاه انفتاح الهيئات امام الكوادر والمكاشفة في الحياة الحزبيّة وعدم إبقاء الأبحاث وراء الجدران. ودخل في نقاشات حادّة مع رفاقه في قيادة الحزب، على خلفيّة هذه الأمور وغيرها. وليس سرّاً أنه لم يكن راضيا عن وضع قيادة الحزب والجبهة وحمل آراء متطرفة اتجاه عدد من القياديين في الإطارين. ولكنه كان يؤكد: "هذه مرحلة عابرة. لا بد أن نخرج منها بجروح وخدوش. لكننا سنكمل الطريق، بهذا الحزب، نحو أهدافنا السامية. فهذا الحزب لم يرتكب أخطاء ولا يمكن تحميله وزر ما حدث في اوروبا الشرقيّة. بل بالعكس، لنا تاريخ ناصع مشرف نعتز به. وما علينا هو أن نواصل هذا الطريق بمبدئيّة وبإخلاص. فالمستقبل لنا، للفكر المستنير. ونحن أصحابه.

     وقضيّة الفكر المستنير هذه طرحها ومارسها توفيق زيّاد طول عمره. فقد ادرك، منذ الصغر، خطورة الرجعيّة والظلاميّة على شعبنا وأمتّنا العربيّة. فحاربها بكل قوته. ورأى للمرأة دوراً كبيراً وأساسياً في هذه الحرب لأنها مستهدفة. فالظلاميون يريدون طمس دورها وكبتها وإبقاءها في البيت والمطبخ. ونحن نريدها إنساناً لها احترامها ومكانتها وإرادتها ودورها ومن حقها أن تعيش وتعمل وتتطور مثل الرجل تماماً. وكان يحرض المرأة ويدعوها لأخذ أمورها بيديها وتحدي الظلاميّة بلا وجل. ولم يكن صدفة ان الوف النساء والفتيات شاركن في جنازته، وهذا أمر نادر الحدوث في مجتمعنا العربي.

     لقد انعكس الموقف من المرأه عند توفيق زيّاد في بيته بشكل خاص. كان منذ الصغر يهتم بأخواته ويضمن لهن المصروف ويحثهن على الدراسة. وزواجه عكس الجانب الآخر المكمل لنظرته للمرأة، اذ بقي كل على دينه. وتضيف أم الأمين، نائلة زيّاد: "تعامل معي بثقة وباحترام وبمحبّة. لم أشعر مرّة بنقص لكوني امرأة، بل بالعكس، أخذ رأيي بالاعتبار في أمورنا المشتركة وأتاح لي حريّة القرار في الأمور التي تتعلق بي"، وانعكس ذلك في موقفه من اختيارها للمشاركة في بطولة فيلم "حتّى إشعار آخر"، فشجعها ورافقها في عدّة مراحل وقام بحضور التصوير وتشجيع كادر العاملين.

     ان أمثال توفيق زيّاد، الإنسان والقائد الذي يعطي كل ما عنده للآخرين، وحياته ليست له وليست لعائلته، يحتاج إلى زوجة مضحية ومتفهمة. مدى استعدادها لذلك يقرر إلى حد كبير مدى قدرته على القيام بواجبه الجماهيري العام. لهذا، فلا يمكن الحديث عنه بدون الإشارة لدورها. فكم بالحري عندما تكون شريكة له أيضاً في العمل السياسي والنضالي. ان صورتها وهي تدافع عن بيتها في يوم الأرض الأول (30 آذار 1976) وبجسدها تمنع الجنود من دخوله، انتشرت في العالم أجمع، ولا تزال محفورة بالأذهان. لقد تعرضت للإعتداء وللشتائم يومها. وفي مرّة أخرى اعتقلت وفي المرات العديدة التي هوجم فيها بيت توفيق زيّاد وكذلك عندما تعرض لمحاولة الإغتيال وهو في بيته، كان الخطر ماثلاً على جميع أفراد عائلته. ابنه امين أصيب برصاصة بوليس في قدمه. ابنته عبور أصيبت بعينها. ابنه فارس، عندما كان طفلاً، كاد أن يصاب بقطعة صاج قذفها رجال حرس الحدود على البيت. لقد تربّى كل أولاده واخوته وأفراد عائلته، في ظل تهديدات وحشية على حياتهم، لكونهم من عائلة توفيق زيّاد. لكن ردهم جميعاً كان بالتكاتف والوقوف يداً واحدة مع عميدهم المحبوب توفيق زيّاد والسير على طريقه السياسي الكفاحي. هكذا كانوا كل عمرهم، قبل أن يصبح توفيق زيّاد قائداً كبيراً، وهكذا يواصلون اليوم. وصار الشغل الشاغل لنائلة زيّاد وأولادها، العمل على جمع تراث توفيق زيّاد وتخليد ذكراه العطرة. وهي مهمّة كبيرة، ولكن يتجند لها العشرات من أحباء توفيق زيّاد في عائلته الصغرى والأكبر .. والأكبر .. فهو عميد شعب بأكمله.

*

    إن توفيق زيّاد إنسان أكبر من كل الكلمات. مهما يقال فيه من الصعب ايفاؤه حقه. ومهما يعمل من المستحيل التعويض عن حضوره. لا بالبكاء ولا بالرثاء، نبادله الوفاء.

     حضور توفيق زيّاد فقط، يسد الفراغ الذي تركه بذلك الغياب المروع. حضوره بقامته المنتصبة الشامخة. بطريقه الخالدة، بكلماته العذبة، بشعره المقاتل، بانسانيته الفيّاضة، بمبادئه الراسخة، بمعاركه الشجاعة، بمواقفه المشرفة، بصلابته الفولاذيّة، بحبه الجارف، بتواضعه الصادق، بطبيعته البديهيّة، بارائه الحكيمة، بتضحياته المتفانية، بذكائه الخارق .. سيظل .. سيظل .. حاضراً بيننا لا يموت.

  • Facebook
  • Instagram
  • Youtube
© توفيق زياد - جمعية للفنون والثقافة
bottom of page