مهرجان ابي العلاء المعري
- areej62
- 24 سبتمبر 2021
- 6 دقيقة قراءة
السبت 11.12.65
جمعية الشبان المسيحية
(1)
الرجل الذي ننشغل بأمره الليلة، هو نفس الرجل الذي ما زال يشغل الناس منذ أكثر من ألف عام.
عندما ولد لم يحفل به أحد غير أهل بيته، ولكن عندما هدأت شفتاه عن الإملاء ووُسّد التراب، وقف على قبره أربعة وثمانون شاعرا يبكون. ومن بينهم كان عليّ بن الهمام الذي خاطبه قائلا:
إن كنتَ لم تُرق الدماء زهادةً فلقد أرقتَ اليوم من جفني دما
سيّرت ذكرا في البلاد كأنه مسك مسامعها يضمِّخ أو فما
(2)
بين السنة الميلادية ثلاث وسبعين وتسعمائة والسنة الميلادية تسع وخمسين بعد الألف عاش الرجل.
ولد في المعرّة ابنا لعائلة من العلماء والشعار، ولُحد فيها وقد أصبح سيد العلماء والشعار في دولة العرب المترامية الأطراف.
وما بين المهد واللحد، وصلت اليه من بين الزحام بنت شديدة من بنات الدهر، وعندما خلفته كانت قد تركت أعمق الأثر على حياته وفكره وشخصيته.
كان ذلك وهو في الرابعة من عمره اذ أصيب بمرض الجدري وعمي، وقال في نفسه: " أنا أحمد الله على العمى مثلما يحمده غيري على البصر".
وما بين المهد واللحد، ترك المعرَّة مرتين : الأولى وهو صبي، تركها في طلب العلم الى حلب وبعض المدائن الأخرى. وعاد اليها عجبا من العجاب: أديبا وفيلسوفا وشاعرا ظريفا يلعب الشطرنج والنرد ويدخل في كل فن من الهزل والجد.
والثانية ترك معرته الى بغداد، أم الدنيا. ولكنه لم يلبث فيها غير سنة ونصف السنة حتى عاد الى المعرّة من جديد ليستقر فيها حتّى يومه الأخير. يُؤم ولا يَؤم، يُزار ولا يزور. دخل داره، وآلَ ألا يخرج منها، انقطع عن الناس الا تلامذته وسمّى نفسه رهين المحبسين.
(3)
هذا الانقطاع عن الناس، عند أبي العلاء، كان احدى ميزاته، انه لمن فساد الرأي أن يقال أن هذا الانقطاع كان لسوء في طبعه وكره عنده للناس، فالحب الذي يكنه لبني البشر كان طبعا لا تطبعا وملكة لا صناعة. ولكن طاقته الفكرية الهائلة هي التي فرضت عليه ذلك. كان في حاجة الى كل لحظة والى كل طاقته الجسمانية حتى يستطيع أن يملي على كاتبه,، نثرا وشعرا، الأفكار التي كانت تتدافع وتقتتل لتصل الى شفتيه وتظفر بالخلود - ومع الوقت أصبح الانقطاع عن الناس نمط حياة عنده حتى يومه الأخير.
(4)
أبو العلاء، أحمد بن عبد الله المعرّي، الشاعر الأديب الفيلسوف، كان قمّة عصره الشاهقة وعنقاءه الأسطوريّة. لم يترك بابا الا ولجه ولا فنّا الّا ولعب به، ولا فكرة الّا ومحّص ولا أمرا خافيا الّا وحاول كشف سرّه ولا عينا الّا وشرب من رأسها.
امتاز عن غيره من عباقرة الفكر بغزارة الإنتاج. لقد كتب الكثير في الأدب والفلسفة وفقه اللغة والقصة والشعر الملحمي. من المؤسف انه لم تصلنا كل آثاره. ولكن ما حفظ منها، احتاج ياقوت الى أكثر من عشرين صفحة، في معجمه، حتى يسمّيه.
وكل مؤلفاته كتبت بعمق وخيال محلق منقطع النظير وروح ذكيّة، بعيدة المرمى لاذعة النقد، قلبت كل المقاييس المتعارف عليها في حينه رأسا على عقب.
من مؤلفاته: سقط الزند واللزوميات ورسالة الملائكة وهي بحث في فقه اللغة على شكل حوار بينه وبين عزرائيل، وناكر ونكير وغيرهم. وهذه الفكرة، فكرة ولوج العالم الآخر، طوّرها فيما بعد وأعطاها لحما ودما في رسالة الغفران التي سبق فيها أبو العلاء دانتي الى فكرة الكوميديا الإلهية بمئات السنين.
ان كل مؤلّف من مؤلفاته يكفي وحده حتى يخلّد الرجل.
(5)
ولكن عظمة المعرّي وعلو شأنه لا ترجع في الأساس الى كثرة تأليفاته وتنوعها ولا الى سعة اطلاعه وشمول نظرته وخياله الرائع وذكاءه الخالص ولا الى ذاكرته شديدة الاختزان. فبهذا لم ينفرد المعرّي وحده فكثيرون غيره من شواهق الفكر العربي امتلكوا ناصية هذه الأمور.
اذن,، فيم سر هذا الرجل وعظمته؟ ما الذي جعله درّة يتيمة ونسيجا وحده في تاريخنا الأدبي؟
ان السر هو في أن المعرّي استطاع أن يكون المرآة الصادقة للعصر الذي عاش فيه، لقد جمع في شخصيته الفلسفية كل تناقضات مجتمعه وكل الصراع الفكري لمختلف القوى الاجتماعية.
ولأعد قليلا الى وراء .....
(6)
يصف الدكتور فيليب حتّى زمن أبي العلاء بأنه زمن "اضطربت فيه الأحوال السياسية وساد الفساد المجتمع ".
ومن الجدير بالذكر انه في تلك الفترة كانت قد شوهت كل قيم العدل الاجتماعي الذي جاء بها الإسلام وجُرد نظام الحكم من مضمونه الديمقراطي التحرري.
كانت الخلافة العربية قد تدهورت وانقسمت إلى دويلات وجيوش الروم نجحت في احتلال أقسام كثيرة من الإمبراطورية الإسلاميّة.
وكان الصراع الداخلي بين فئة الأمراء والإقطاعيين والولاة من ناحية وبين الفلاحين المعدمين والحرفيين وعمال الري والجنود من ناحية أخرى على أشدّه.
فئة الأمراء والإقطاعيين وأسياد الأرض ورؤساء الجيش المحترفين كانت تنهار مراكز نفوذها فتسقط في بحران من اليأس والتشاؤم. وفئات الشعب المختلفة كانت تطمح الى إجراء تغييرات جذريّة في المجتمع، وتحطم سيطرة الأمراء والإقطاعيين ورجال الدين المحترمين الذين كانوا أداة في يد الحكام، يرمون بالزندقة كل مفكر متحرر مستهدفين قتل تلك الأفكار ولجم الثورة الاجتماعية التي كانت تتجمع وتتنفّر هنا وهناك.
في تلك الفترة كانت القوى المنتجة قد وصلت الى درجة كبيرة من التطور. تطورت الحرف والزراعة وأنظمة الري المعقدّة، واتسعت العلاقات التجارية والرحلات البحرية وازدهرت صناعة السفن والفن المعماري. هذا كله كان يتطلب تعمق الإنسان في معرفة الطبيعة ودفع العلم والتكنيك الى أمام. ومع تطور هذه القوى الجديدة اتسعت دائرة الناس الطامحين الى التحرر من الأفكار والفلسفة القديمة والمتطلعين الى أفكار جديدة تساعدهم في إيجاد شكل جديد لنظام الحكم.
في تلك الفترة بالذات ظهرت المعتزلة ثم اخوان الصفا. والأفكار المتحررة الجديدة التي جاؤوا بها كانت القاعدة الفكرية للحركات التحررية والانتفاضات المسلحة وعلى رأسها ثورة الزنج المشهورة.
يقول الدكتور حتّى: "ان المعري أثناء دراسته في بغداد أخذ ببعض آراء اخوان الصفا المتحررة".
ومن هذا فالوظيفة التاريخية لأبي العلاء كانت مواصلة طريق اخوان الصفاء وبلورة وتطوير أفكارهم المتحررة.
ولكنه في حياته، وقف محتارا يتجاذبه تياران. الأفكار القديمة السائدة والأفكار المتحررة الجديدة التي كانت تشق الطريق وتفعل في نفسه فعل السّحر. ولم يأخذ المعري لا بهذه وحدها ولا بهذه وحدها بل جمع الاثنتين.
جمع اليأس والتشاؤم الى جانب روحه المتمردة وثقته واعتزازه المتناهي بالنفس، كفر برجال الدين والأمراء ووصفهم في احدى قصائده بالبراغيث، ولكنه كان يداريهم. جمع بين الفكرة الجريئة الحادّة وبين طريقة التعبير الملتوية، بين الشك واليقين، بين التدين والعقل، وهو القائل:
اثنان أهل الأرض ذو عقل بلا دين وآخر ديّن لا عقل له
جمع بين حبه العميق للجنس البشري وبين الرّغبة في استئصاله، أليس هو القائل :
هذا ما جناه ابي عليّ وما جنيت على أحد
في رأيي أنه في شخصية المعري المتناقضة يكمن في الأساس سر عظمته وتفوقه. ان هذه الشخصية الفلسفية المعقدة الزاخرة بكل التناقضات جعلت من المعرّي مرآة حقيقية لعصره. ان هذا لم يتوفر في غيره كما توفر فيه. لقد نجح المعرّي بسبب دماغه الراقي، أن يختصر عصره في ذاته كما يُختصر المحيط في قطرة ماء تحمل كل عناصر المحيط.
(7)
ولكن .....
هذا لا يعني أن هذه المتناقضات والأفكار المتعارضة كانت تجتمع في شخصية أبي العلاء الفكريّة اجتماع حبيبين بل اجتماع الشحم والنار، اجتماع عدوين يسعى الواحد منهما للقضاء على الآخر قضاء مبرما.
وفي هذا الصراع القتّال كانت الغلبة دائما الى جانب عناصر الثورة والتمرد واستجلاء الجديد الى جانب أفكاره التحررية الرّائعة التي جعلها تضرب جذرها عميقا في أدمغة الناس.
وعلى سبيل المثال موقفه من الدين، لقد حاول أن يخضعه للعقل، ولكن ان الذي يحسب أن أبا العلاء كان ملحدا فقد ارتكب أمرا أدّا. أبو العلاء متعبدا صادق الإيمان بالله ولكنه كان شاكّا بالرسل وبالكتب المنزلة. كان ينظر الى الرسل كرجال فكر عظماء والى الكتب السماوية كتآليف عبقريّة ويزدري بالمتصوفة الذين كانوا أشد دعاة الدين رجعية وأشدهم تمسكا بالقشور.
يقول:
أرى جيل التصوف شر جيل فقل لهم وأهون بالحلول
أقال الله حين عبدتموه كلوا أكل البهائم وارقصوا لي
وازدرى أيضا علماء الكلام السفسطائيين ورسم لهم النموذج التالي:
هذا أبو القاسم أعجوبة لكل من يدري ولا يدري
لا ينظم الشعر ولا يحفظ القرآن وهو الشاعر المقري
(8)
وأهمية خاصة يكتسبها رأيه في الكثير من أحكام الشريعة وأحكام الشريعة في حينه كانت دستور الحياة الاجتماعية في ذلك الوقت مثل قوانين الدول اليوم.
أمثلة :
استنكر قطع يد السارق
يد بخمس مئين عسجد فديت ما بالها قطعت في ربع دينار
وقف ضد سبي النساء الأجانب واباحتهن الأمر الذي يورث العداوة في القلوب. يقول:
ان الشرائع القيت بيننا احنا وأورثتنا أفانين العداوات
وما أبيحت نساء الروم عن عرض للعرب الا بأحكام النبوّات
(9)
ولم يقتنع بالفكرة القائلة أن أصل الجنس البشري كان بسبب تزويج آدم ابنتيه لابنيه، كان يطمح الى تفسير آخر. ولكنه عبّر عن ذلك بطريقة رائعة الذكاء.
يقول:
إذا ما ذكرنا آدم وفعاله وتزويجه بنتيه لابنيه في الخنا
علمنا أن الخلق من أصل زيفة وأن جميع الناس من عنصر الزنا
من الواضح أنه أراد بهذا أن ينتقض التناقض الموجود بين تحريم الزنا وبين تزويج آدم ابنيه لابنتيه وأن يعبر عن شكه في ان مصدر الجنس البشري كان من هذا الزواج.
(10)
ولم يؤمن المعري بالبعث بعد الموت.
يقول:
يحطمنا حرف الزمان كأننا زجاج ولكن لا يعاد له سبك
ويقول:
ويذكر أن في الأيام يوما يقوم من التراب مغيَّبوه
وما يحدث! فإنّا آل عصر قليل في المعاشر معجبوه
(11)
وقبل أن أنهي أود أن أمس برفق رأي أبي العلاء في قضية عالجها الفلاسفة منذ الأزل وانقسموا عليها الى فريقين وهي قضية مصدر الشر وسبب الشر في العالم.
الفريق الاول يقول: ان الله هو مصدر الشر في العالم ولذلك لا يستطيع الناس أن يلغوه.
والفريق الثاني يقول: الإنسان، المجتمع الإنساني هو مصدر الشر وهو الذي يستطيع أن يلغيه.
وكان أبو العلاء، في هذا النزاع مع الفريق الثاني. الى جانب الفيلسوفين اليونانيين ديمقريث وابيقور.
وواضح جدا أن رأي الفريق الأول من المفكرين الذي يقول ان الله هو مصدر الشر في العالم يقصد من وراء ذلك تثبيت وتخليد الظلم الاجتماعي والقاء المسؤولية على الله.
وأما الفريق الثاني من المفكرين الذي يقول بأن الإنسان، المجتمع الإنساني هو مصدر الشر، وأنه يستطيع ان يلغيه، يقصد من وراء ذلك الغاء الظلم الاجتماعي وأنظمة الاستبداد وبناء حياة أفضل.
(12)
أيها السيدات والسادة
انني بهذا أكون قد أتيت الى نهاية كلمتي، ولختامها لا أجد أفضل من الأبيات التالية التي قالها أبو العلاء في نفسه وهو يودع الحياة والتي حاول بها أن يلخص رأيه في الحياة:
يا محلي عليك مني سلام سوف أمضي وينجز الموعود
فلجسمي الى التراب هبوط ولروحي الى الهواء صعود
وعلى حالها تدوم الليالي فنحوس لمعشر وسعود
أترجون ان اعود اليكم؟ لا ترجوا فإنني لا أعود
تعليقات