صور من الأدب الشعبي الفلسطيني
- areej62
- 24 سبتمبر 2021
- 7 دقيقة قراءة
بقلم توفيق زيّاد
الفصل الأوّل
من تراث أدب المقاومة
لننقذ أدبنا الشعبي من خطر الضياع
(1)
كثيرون هم الشعراء، والفنانون، ورجال الفكر، الذين قدّموا للبشرية أعمالا ضخمة، وكان انتاجهم قمماً شاهقةً في الثقافة الإنسانيّة.
ولكن في كل الثقافة البشرية، ذات المميزات العامّة، وفي كل الثقافة البشريّة، ذات المميزات الخاصّة بشعب من الشعوب، توجد قمم لم يستطع، ولن يستطيع الوصول اليها، أي شاعر أو فنان فرد.
وشاعر هذه القمم غير المنازع، وصانعها المبدع، هو الشعب كمجموع.
ان الشعب – كمجموع – هو القوة المحركة لتطور المجتمع البشري، وهو صانعة كل الخيرات الماديّة والروحيّة، وهو الرحم الخصب الذي يعطي لكل جيل غذاءه الذي تتوفر فيه كل الفيتامينات الضرورية، حتى يشب قويا معافى.
من وجهة النظر هذه يجب أن ينظر الى فولكلورنا، الى أدبنا الشعبي، طارفه وتليده.
(2)
ان الشعب، الشاعر الأكبر كمجموع والفنان الأكبر كمجموع، كان دائما قادرا أن يختزن حكمة هائلة في جملة، وأن يشحن بيتا من الشعر بصورة لا أروع ولا أعمق. وفي مثل من كلمات موسيقية معدودة، يستطيع ان يعبر عن ومضة حياتية، بكل أبعادها وظلالها وتموجاتها، وفي جمل سهلة ممتنعة. أن يقدم قصة أو أسطورة يختزل فيها طبيعة مرحلة كاملة.
**********
ان أكبر الفنانين والشعراء ورجال الفكر الذين قدموا إنتاجا خالدا، كان سرهم الأساسي: ارتباطهم بجماهير الشعب والنظر الى تجربتهم الذاتية، كجزء عضوي من التجربة العامّة، وفي استطاعتهم التعبير بانسجام عن ظروف عمل، وحياة وكفاح الناس المحيطين بهم.
هذه الصلة كانت دائما "القصبة الهوائيّة" التي كانوا يتنفسون منها.
ولكن، مع ذلك، فإن انتاجهم يظل دائما محدودا بذاتيتهم، وبظروفهم وممارستهم، وبمدى فهمهم لحركة التاريخ.
أما الأدب الشعبي .. الفولكلور .. فإنه يتميز عن ذلك الإنتاج الفردي، بأنه إنتاج جماعي، إنتاج الشعب ككل. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فانه لم يصمد لمرحلة معينه فحسب، بل قطع شوطا طويلا حتى وصل الينا، مستفيدا ومغتنيا من ذكاء وخبرة مختلف الأجيال التي واكبها. وكان دائما خاضعا "لتعديل" الأجيال المتعاقبة كل منها يحافظ على مضمونه وشكله الأساسيين، ويغنيهما بعناصر جديدة. ولذلك فإنه يصل الينا صافيا.. مقطرا.. وقوي التعبير.
(3)
إن شعبنا العربي قد عبر على تاريخ طويل. مر بفترات ازدهار رائعة، وفترات ظلم خانق وانحلال وتفسخ. وكان قرونا وقرونا، فريسة للاضطهادات المتعددة الأشكال.
وخبرته الطويلة تلك، وتعدد "الأجواء" التي عاشها جعلته شعبا فنانا، وشاعرا مطبوعا، وراوية ذكيا.
وقد استطاع دائما، عن طريق المثل والحكاية السيارة، والأسطورة، والأغنية الشعبية، أن يعبر عن تلك الفترات التي عاشها، بما فيها من معاناة، وانطلاق، وأحزان، وأفراح، وتضحيات. وأن يصوغ الكلمة التي تسقط الى أعماق النفس، وأن يؤلف ويلحن الأغنية التي تهز المشاعر، كما تهز الريح شاشة حريرية.
وكل شعب من شعوبنا العربية، ساهم في إيجاد هذا الفن والأدب الشعبيين مستوحيا أوضاعه وظروفه الخاصّة به.
(4)
ولكن، كما أن للأدب الشعبي مميزات هي في صالحه، فهنالك أمور يمتاز بها هي في غير صالحه وتجعله مهددا بخطر الضياع دائما. ومن هذه أن الفولكلور – بأكثريته – يتميز عن غيره من الإنتاج المطبوع والمذاع بمحليته وخصوصيته. ففي كل منطقة وناحية، ومجال مهني، الأغاني "الخاصة" به. فأغاني الجليل، والمثلث، وصيادي الأسماك، والمكارية، والتهاليل، والمرثيات (التناويح)، والأعراس، وقصص الكفاح ضد الحكم التركي والبريطاني وغيره الخ....عديدة ومتنوعة. صحيح ان هنالك بعض الأغاني والقصص والأساطير، قد ارتفعت الى مستوى أرقى وأصبحت عمومية ولكنها أقلية ضئيلة.
ولهذا الأمر بالضبط فان خطر الضياع يتهدد دائما الدرر الفولكلوريّة، ويجعلها تضيع مع الوقت. ان مرور الزمن الذي هو مصدر قوة وثراء لفولكلورنا هو في نفس الوقت العدو اللدود.
ولكن هذا الخطر ممكن قهره والقضاء عليه، وذلك عن طريق جمع وتسجيل هذا الأدب الشعبي. هذا هو الطريق الوحيد، للمحافظة على عدد هائل من الكنوز الفولكلورية، حتى لا تضيع كما ضاع غيرها.
وهذا واجب قومي وإنساني، من الدرجة الأولى. وهو يقع في الأساس على عاتق شعرائنا وكتابنا المنشغلين بالكلمة.
***********
صحيح أن هذا ليس بالأمر السهل. ان صعوبات جمّة معروفة، تقف في الطريق. من الأفضل لو كان هنالك بعض "المتخصصين" ولكن هذا أمر غير مضمون ولا يجب أن نقف مكتوفي الأيدي. حتى يصبح بالإمكان الاعتماد على مثل هؤلاء "المتخصصين" غير الموجودين.
ولكن المهمة تصبح أقل صعوبة وممكنة اذا ساهم كل من في استطاعته ذلك، في عملية جمع هذا الأدب. فكلما كثرت الأيدي وكلما اتسعت رقعة المساهمين والمبادرين، كلما أصبحت المهمة ممكنة أكثر.
(5)
ولكن بهذا نكون قد قطعنا نصف الطريق فقط. وينشأ عندنا خطر من نوع آخر، وعلينا أن نتغلب عليه، وهذا هو النصف الآخر من الطريق.
وقبل أن أوضح ما أريد أن أقوله، أود أن أتعرض لمشكلة معقدة، يجب أن نفهمها على وجه التطور التاريخي للغتنا العربية. ان اللغة كأداة تعبير، كشكل للأفكار تتأثر هي أيضا بمضمون تلك الأفكار.
ولكل لغة جمالها ونواحيها الرائعة.
ولكن هنالك لغات، بسبب التجربة الحياتية للشعب الذي تخدمه وشمول تلك التجربة ومدى تخمرها، اكتسبت نكهة خاصة وأصبح لها طعم النبيذ المعتق. وأصبحت مرنة وذات طاقة غير محدودة على التعبير.
ولغتنا العربية هي واحده من هذه اللغات التي أقصد. انها غنية وملوّنة، وتستطيع أن ترسم لك اللوحة التي تريد مهما كانت معقده. انها لا تقف عاجزة عن وصف ادق اللفتات واللمسات الحياتية والنفسية. ولذلك فهي لغة متواضعة طيعة، تأبى أن تتحجر كما أراد لها بعض المتزمتين، الذين يقبنون القط من ذيله، ويريدون حشرها في قمقم.
ومما زاد في حيويتها وطاقتها، اغتناؤها من اللغات الأخرى، لغات الشعوب التي امتزجت ثقافاتها بالثقافة العربية في مراحل تاريخية متعددة.
**********
ولكن بالإضافة الى ما تقدم فان أمرا آخر عبر على لغتنا العربية: ذلك هو قيام فرق كبير بين اللغة المنطوقة اليومية، وبين اللغة السليمة .. أقصد نشوء اللغة العامية.
وفي هذا تختلف لغتنا عن كثير من اللغات الأوروبية التي، بأكثريتها الساحقة، بقيت تقريبا على ما كانت عليه. صحيح انه نشأت لهجات محلية، وكلمات عامية في تلك اللغات، ولكن لم تنشأ لغة عامية. واللغة المنطوقة في أوروبا مثلا، ليست لغة مشوّهة عن اللغة السليمة، وانما هي نفسها والفروق القائمة ليست أساسية.
ولكن الوضع مع لغتنا يختلف:
فاللغة العامية العربية التي نشأت هي لغة مشوهة. فبينها وبين اللغة السليمة فروق نوعيّة،, في النطق والتركيب. وهي متحللة من أي انضباط نحوي.
وأدبنا الشعبي الغنائي موضوع بهذه اللغة المشوّهة. والوزن الشعري، والتركيب الكلامي، والرويّ فيها يختلف عنه في القصيدة الموضوعة باللّغة السليمة.
*****************
ولكن بالإضافة الى ما تقدم فإن أمرا آخر عبر على لغتنا العربية: ذلك هو قيام فرق كبير بين اللغة المنطوقة اليومية، وبين اللغة السليمة .. أقصد نشوء اللغة العامية.
وفي هذا تختلف لغتنا عن كثير من اللغات الأوروبية التي، بأكثريتها الساحقة، بقيت تقريبا على ما كانت عليه. صحيح انه نشأت لهجات محلية، وكلمات عامية في تلك اللغات، ولكن لم تنشأ لغة عاميّة. واللغة المنطوقة في أوروبا مثلا، ليست نسخة مشوهة عن اللغة السليمة، وانما هي نفسها والفروق القائمة ليست أساسية.
ولكن الوضع في لغتنا يختلف:
فاللغة العامية العربية التي نشأت هي لغة مشوهة. فبينها وبين اللغة السليمة فروق نوعية، في النطق والتركيب. وهي متحللة من أي انضباط نحوي.
وأدبنا الشعبي الغنائي موضوع بهذه اللغة المشوّهة. والوزن الشعري، والتركيب الكلامي، والروي فيها يختلف عنه في القصيدة الموضوعة باللغة السليمة.
***************
وهنا أتعرض للصعوبة الثانية التي أشرت اليها. وأنا أعرضها هنا على الشكل التالي: ان جمع أدبنا الشعبي الغنائي وتسجيله، هو نصف الطريق. وأما النصف الثاني فهو نقله – او نقل روائعه – الى اللغة السليمة. لأنه اذا نظرنا نظرة بعيدة المدى، فهذه هي الوسيلة لحفظه طول الوقت.
ان الضرورة التاريخية التي خلقت اللغة العامية النسخة المشوهة للغة الفصحى، هي نفسها ستلغي، في ظروف تاريخية قادمة، هذه اللغة العامية. ان اللغة التي لها المستقبل هي الفصحى المستفيدة من العامية. ومن هنا تنشأ ضرورة نقل روائع أدبنا الشعبي، الى اللغة السليمة مستفيدين من تعابيرها العامية الملائمة. فمن ناحية هذا هو الطريق للإبقاء عليها، ومن ناحية أخرى – هذا هو الطريق لتعميمها وجعلها ملكا لكل الشعب. نقدمها له في الإطار اللغوي السليم الذي يفهمه الجميع. ومن ناحية ثالثة – فهذا هو الطريق الى عالميته .. الى نقله للغات الشعوب الأخرى.
هذه أيضا مهمة معقدة. ولكن يجب أن نعمل في هذا الاتجاه. ان بعض التجارب القديمة والحديثة في مجال نقل الأغنية الشعبية الى اللغة السليمة، أثبتت أن هذا أمر ممكن.
(6)
ولا يحسبن أحد انني انظر الى قضية جمع وتسجيل الأدب الشعبي، والى نقل روائعه الى اللغة السليمة، من وجهة نظر الفن للفن. نحن لا ننظر الى الأدب الشعبي المتناقل وكأنّه شيء في أثر الماضي .. أو أيقونات نعلقها على الصدور. أو أشياء أثرية للزينة. أو نصوص تحفظ كما يَحفظ القرآن، المسلم غير العربي. ونحن لا ننظر اليه كجثة يجب تحنيطها، ووضعها في مزار.
انما ننظر الى الأدب الشعبي من وجهة نظر الحاضر – والمستقبل. ففي مسيرتنا نحو الحرية السياسية والاجتماعية نحن بأمس الحاجة أن نشحذ ذلك السلاح الأصيل. انه لازم لنا، لنصقل به نفسيتنا حتى يزدهر كل ما هو خير وطيب فيها.
أن معرفة شبيبتنا وشعبنا لتراثه الفولكلوري، هو أمر ضروري له ليتربى على تقاليد انسانيّة ووطنيّة.
ان القصيدة الشعبية التي قالها الثائر الفلسطيني "عوض"، أحد أبطال شعبنا في ثورة 1936، وهو على حبل المشنقة في سجن "عكا"، بإمكانها أن تسكب في نفسية الإنسان من التضحية ونكران الذات، أكثر من ألوف المحاضرات، والخطابات، والقصائد التي قيلت. انني لا أعرف عملا شعريا يمكن أن يقف من ناحية الصلابة والتضحية والشجاعة، في كفة ميزان مع تلك القصيدة الرائعة. ولا أعرف قصيدة تستطيع أن تقف في كفة ميزان، برقتها وعذوبتها وروعة تصويرها، مع اغنية "قطعن النصراويات مرج ابن عامر – فيهن حبالى وفيهن مراضع _ وفيهن بنات البكر ما ينسخا بهن".
أو أغنية "عذّب الجمال قلبي – يوم ان نوى ع الرحيل".
ان مثل هذه الكنوز لا يعد ولا يحصى. وحرام أن تضيع !! ان جمعها وتعميمها، هو واجب ثقافي ذو مضمون إنساني ووطني من الدرجة الأولى.
(7)
هذا بالنسبة لتراثنا الفولكلوري الغنائي الذي كتبه الشعب بكلماته الحارّة، ولحنّه بكل ما في نفسيته الزاخرة من قدرة على التجلي.
ولكن المهمة تصبح أسهل بالنسبة للتراث القصصي الواقعي والأسطوري.
فنصيب كبير من فولكلورنا هو فولكلور قصصي واسطوري، ينتقل من الأب الى الابن، والجد الى الحفيد.
في زياراتي لبعض قرانا، سمعت قصص حب رائعة تكشف عن أنبل وأسطع العواطف .. انها تضاهي من حيث موضوعها روائع الأدب العالمي مثل "قيس وليلى" و "روميو وجولييت" و "آلام فرتر" الخ ...
وهنالك قصص كفاحية لا تعد ولا تحصى، مرتبطة بالكفاح ضد المحتلين الأتراك، والمستعمرين الإنجليز، وللتحرر من العبودية الاجتماعية.. عبودية الأغنياء والاقطاعيين والمالكين. وقصص ذات إطار سياسي ومضمون وطني وطبقي مثل قصة "ممدوح وميثا" التي تصور، خلال قصة حب، كفاح جبل العرب ضد العبودية التركية. وقصة محمد الملحم، التي تصور كفاح الشعب السوري ضد الفرنسيين. وقصة حسين العلي من عرب الصقر، التي تصور كفاح الشعب العربي الفلسطيني ضد الإنجليز. وقصة "غبيشه" البطل الأردني. وقصة "نمر العدوان" التي هي ملحمة رائعة.
ان تراثنا الشعبي الفولكلوري غني وزاخر بقدر ما هو غني وزاخر كفاح شعبنا على مر العصور والأحقاب. وأبطال هذا الأدب المختلفون هم وجوه متعددة للبطل الأساسي – الشعب كمجموع.
ان خطر الضياع قضى على كنوز كثيرة، وهو يهدد الكنوز الباقية، والكنوز التي تولد كل يوم ... وعلينا ان لا نسمح بذلك..!!
فيا كل الأدباء والشعراء .. ويا كل الذين على صلة – بمدى أو بآخر – بهذا التراث الشعبي .. ارموا بأحجاركم .. في هذا الدلو .. !
تعليقات