اللحظة المضيئة
- areej62
- 24 سبتمبر 2021
- 3 دقيقة قراءة
بقلم توفيق زيّاد
يقال...أنه حتى تعرف كيف تشتغل جيدا، يجب ان تعرف جيدا كيف ترتاح. ويقال ان الذين يتقنون ذلك قلائل. فان تعرف جيدا كيف ترتاح، لا يعني أن تتقهقر أمام متاعبك اليومية، وهمومك الحياتية,، بل ان تقهرها.. أن ترتفع فوقها. ان الأمر لا يتعلق بالوقت، ولا بالناحية الجسمانية الصرف .. لا يتعلق بالحكم بل بالنوع، والا لكان الأمر لا يتعدى نطاق الخمول. والفرق بين الخمول وبين الراحة، كالفرق بين المرض والعافية. وعلى كل حال انا لا أكتب "للتعبانين" .. وانما لأولئك الذين يحسون أن في داخلهم تشتعل أبدا، نار لا تخمد.
مهما كانت المتاعب اليومية شديدة ومعقدة، وهموم الحياة العادية متشابكة، ومحيرة، ففي غمرتها يشعر الإنسان أحيانا بضرورة ان يرمي الدنيا من وراء ظهره، لحظات يستعيد فيها لذهنه صفاءه، ويستجمع قوى وطاقات جديدة لمواصلة طريقه.
ولكن أن "ترمي الدنيا من وراء ظهرك" لا يعني ان ترمي الدنيا من وراء ظهرك ... ولا يعني أن تقفل بابك عمّا يحيط بك، وأن تعيش لذاتك. فقط أناس لهم،( كما قال ماركس)، مؤخره كمؤخرة الثور، يستطيعون أن يفعلوا ذلك، وان يديروها لآلام الآخرين.
والنوع الذي أقصد، هو ذلك الذي يشعر، انه بحاجة لبضع لحظات، يرتفع فيها على مشاغله اليومية، وهمومه، مهما كان نوعها، ليفكر بوضوح، وليحس، ويستمتع حتى الأعماق، بجمال الطبيعه والحياة، ويحاول التغلغل الى أعماقها، لا كمتطفل ... وانما كعاشق ..
ولست أنا الذي أقول هذا، وانما انسان كبير عرف في حياته كيف يرتاح ويحس بالمتعة و "يلقي القبض" على مثل هذه اللحظات، التي تحس ان الزمن توقف عندها ... انسان عاش حياته مشردا، وفي أعماق السجون، وذاق الى جانب لذة الحب والكفاح، لوعة الفرقة، ومر العذاب. والراحة بالنسبة اليه لم تكن هروبا، وانما استجلاء لأسرار الجمال المحيط بنا.
ومثل هذه اللحظة المضيئة ... يحس بها كل واحد منا، ولا شك، وهو يحتاج اليها مثلما يحتاج الى حمام وقميص نظيف، بعد زمن من العمل المنهك. ولكن ليس كل واحد منا، وليس كل من حمل قلما، بقادر ان يمسك تلك اللحظة، التي كان الزمن قد توقف عندها قبل ان يواصل مسيرته.
ومثل هذه اللحظة، لا يمكن اصطيادها بالتربص، وانما هكذا عفويا، وهي تستطيع ان تشق طريقها الى نفسك حتى في أحلك الأوقات. اذ لا قوة تستطيع أن تحجزها عنك، في اللحظة المناسبة.
مثل هذه اللحظة شقت طريقها الى فنان أصيل، فأمسك بها من غرتها، وسجل ملامحها على الورق:
المكان: ساحة السجن في تركيا مندريس.
في الساحة شمس، ونسمة حرية، ورجل كهل، أشيب، أزرق العينين. انهم أخرجوه الى الساحة، بعد ان اعتقلوه زمنا طويلا في أقبية العذاب، والزنازين الرطبة المظلمة.
" انه الأحد اليوم. ولأول مره أخرجوني الى الشمس اليوم ".
لأول مرّة ...!! وماذا يفعل انسان كهذا يخرج الى ساحة السجن لأول مره؟ وبماذا يفكر انسان كهذا، عنده الف هم وهم؟ هم ابنه محمد الذي في الخارج، وهم أم محمد، وهم العصبة المكافحة، التي ذاق واياها حلو الدنيا ومرها، وهم أصدقائه من بسطاء الشعب، الذين احبهم، وكرس حياته لهم؟ هم السنوات التي مضت عليه في السجن، والسنوات التي ستأتي ... ربما في السجن أيضا؟ ولكن .. لا !! تلك اللحظة المضيئة شقت دربها اليه ورفعته فوق كل ما يشغل باله ..
"تطلعت الى السماء دون اضطراب مستغربا أن تكون بعيدة الى هذا الحد، وأن تكون فسيحة الى هذا الحد"
هل هناك بصيرة أحّد .. وفكر أكثر توقدا .. وطاقة على الالتقاط أشد من هذه؟ وهل هناك صورة عشقية أغنى وأرقى من هذه؟
قولوا ما شئتم .. ولكني عندما قرأت هذه الكلمات خرجت أنا الى الشمس أيضا وحدقت في السماء وبالفعل وجدتها للمرّة الأولى، بعيدة وزرقاء وفسيحة الى هذا الحد..
وماذا يفعل ذلك الذي يكتشف، في لحظة مضيئة، شيئا ما، شعر به من قبل.
"وجلست على الأرض، وكلي تهيّب
وألصقت ظهري بالجدار الأبيض
فليس الآن موضوع تفكير.."
الله الله يا ناظم! .. فليس الآن موضوع تفكير !! وبكل هذه البساطة..؟ وبكل هذه الصراحة التي لا يقوى عليها غير فكر متوقد ..؟
"فليس الآن موضوع تفكير
أن ألقي بنفسي في الخضم
ليس من نضال في هذه البرهة
ولا من مشاغل حرية أو نساء.
أرض ..
وشمس ..
وأنا ..
أنا انسان سعيد .."
هكذا يهتف نفس الإنسان، الذي كان النضال، ومشاغل الحرية والنساء، مضمون وجوده وحياته كلها !! ولكن بالضبط انسان كهذا، هو الذي بشكل خاص، تشق اليه دربها تلك اللحظة المضيئة .. انه يجب أن يتحد، ولو للحظة، مع الطبيعة والحياة .. ان يتحد مع الأرض، والشمس، والجمال المحيط به، كي يرتشف قطرة سعادة تكون زوادته على طول طريقه، الى الشمس ...
تعليقات